لم يتطور الوعي الاجتماعي عبر مسيرةٍ تاريخيةٍ بمثلِ هذه السرعة التي نعيشها، مع تطوّر الثورة التكنولوجية ،والانفجار المعلوماتي الهائل. فقد ساهمت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في نشرالمزيد من الأفكار والمفاهيم والمعلومات التاريخية والسياسية والأدبية والفنية والفلسفية وغيرها. كما ساهمت في فلترة الضبط المعرفي بخاصة من خلال شركة الفيسبوك التي أوجدت حالةً جديدةً من الوعي الاجتماعي المتضمِّن للكثير من الأطر والمفاهيم الاجتماعية التي وصلت إلى المتلقي بطريقةٍ منمقةٍ ولطيفةٍ في كثيرٍ منَ الأحيان، والتي كانت قادرةً على التلاعبِ بعواطف وأحاسيسَ ومشاعرَ وانفعالاتٍ ونكوصٍ وارتكاس المتلقي، والآليات المعرفية والعقلية التي يقوم من خلالها باستيعاب وهضم المعارف التي يتلقاها. من أجل تحقيق السيطرة شبه المطلقة على الناس المستهدفين وتحوير سلوكهم واتجاهاتهم وتغيير آرائهم ومعتقداتهم وثوابتهم الوطنية والقومية . وجعل المتلقي يعيش حالةً من الوهن والضعف ويخضع لكل عمليات غسيل الدماغ المبرمجة واللعب بإدراكاته.  
إنّ ما سبق يؤشِّر إلى وجود من يسيطرعلى تلك الوسائل ويضبط إيقاع المعرفة في المجتمع الذي يمثّل أحد أكبر وأهم الأهداف الموضوعية للجماعات أو الفئات المسيطرة على مفاصل السلطة ومصادر الثروة، ومنافذ الإعلام في المجتمع الذي تسيطر عليه، وهي المهمة الأساسية التي لا بدّ من تحقيقها بشكلٍ محكم ،والحفاظ عليها لتحقيق استدامة الطغيان والاستبداد، سواء بأشكاله القاسية الفجّة أو بأشكاله المنمَّقة المزوَّقة بقشرةٍ رقيقةٍ وشكليّةٍ من الديمقراطيّةِ السطحيّة.
المسألة الأساسية في إطار السيطرة على صناعة المعرفة وانسيابها وتدفقها، يكمن في آلية إنشاء وصناعة (الميديا) على المستوى العالمي، المهيِّمن عليه من قِبَل الشركات الضخمةِ وعدد قليل من المؤسسات. مثل وكالات الأنباء والصحف والمجلات العالمية التي تتسيَّد المشهد الإعلامي، والمؤسسات والهيئات الكبرى الضخمة، وجميعها متوطنة في العواصمِ الغربيةِ الكبيرة الرئيسية. وهي المؤسّسات والهيئات التي تمتلك التمويل الضخم الكافي لنشر شبكة واسعة من المراسلين في عموم أرجاء كرتنا الأرضية. تتيح لها التمسّك بمفاتيح الفلترة الإعلامية على المستوى الدولي .وبالتحديد ما هو هام ،وهو جدير بأن يكون (خبراً إعلامياً)، وذلك الذي لا أهمية له ولا قيمة، ولا بدّ من تنحيته إلى طي النسيان والذاكرة الاجتماعيّة الهشَّة المثقوبة.
معظم كل المؤسسات بل جميعهم يمثِّلون المركز والمصدر الأساسي لكل المؤسسات والهيئات الإعلامية الأصغر التي تنهل من المصدر الأساسي، وتتبع لإرادته ومشروعه، لأنّها لا تملك القدرة الكافية على اتخاذ خط مستقل لها، لأنّها تعتمد اعتماداً كبيراً على ما تنتجه المؤسسات والهيئات الإعلامية الممتدة أذرعها كأذرع الأخطبوط. ولا تملك القدرة على البناء والاعتماد على معلومات إعلامية وتقوم بتحرير وإعادة صياغة ما يصل إليها. دون أن يكون لها موقف رافض أو رأي مغاير أو أن يكون لها أي دور لتحقيق حضور قوي أو جدارة تلك المواد الإعلامية. وهي غير قادرة على انتاج مادّة إعلامية أصيلةٍ تضاهي لتلك المواد المستوردة. لعدم قدرتها على امتلاك الإمكانيات اللوجستية والتمويلية والإدارية لنشرالمراسلين في أنحاء العالم. كما تفعل وسائل الإعلام الضخمة المسيطرة عالمياً ، في فترةٍ زمنيةٍ أضحى فيها تقديم المعلومة والتغطية الإعلامية المموّلة شرطاً لبقاء أي هيئة أو مؤسسة إعلامية صغيرة الحجم وقليلة الإمكانيات، لا يمكن لها أن تكتفي بتقديم القليل من التغطيات المحليّة الساخنة، كما كان الحال في القرن الماضي.
الوسائل الإعلامية المسيطرة اليوم تقوم على المستوى العالمي بضبط إيقاع (الميديا) العمل الإعلامي على المستوى العالمي، بتناغم وانسجام مع رغبات وإرادات دافعي رسوم الإعلان فيها.هي نفسها وسائل الإعلام المسيطرة التي تتسيّد في العالم ، تمثل جزءاً أساسياً وعضوياً من منظومة المجمّعات الصناعيّة الحربية التكنولوجية المهيمنة، والحاكم العملي والفعلي في المجتمعات الغربيّة. وهي في جوهر تكوينها الوظيفي والبنيوي شركات ضخمة عملاقة عابرة للقارات، وعابرة للقوميات ترتبط مصالحها بدوام هيمنة وسيطرة منظومة المجمعات الصناعيّة الحربية التكنولوجية والكارتيلات الكبرى التي تمتلك حصة الأسد من أسهم معظم الوسائل الإعلاميّة تلك،هنا يبرزالدورالرئيسي لتلك المؤسسات والهيئات الإعلاميّة في تحويل مشاهديها ومستمعيها وقرّائها، وكلّ الوسائل الإعلاميّة الصغرى التي تنهل من تلك المؤسسات والهيئات الكبرى مادتها الإعلاميّة الأساسية، ومن يتلقى نتاج تلك المؤسسات والهيئات الإعلاميّة الصغرى في نهاية الأمر، إلى مادة خام تقوم الوسائل الإعلاميّة الضخمة ببيع ما تنتجه بهدف تغيير بنية العقول والمعارف إلى المعلنين في تلك الوسائل الإعلاميّة، وهم في معظمهم من أولئك المنخرطين في شبكة المجمعات الصناعيّة الحربية التكنولوجية وشركاتها العابرة للقوميات والعابرة للقارات، إذ أنّهم الوحيدون القادرون على دفع الرسوم والمصاريف الإعلانيّة الباهظة جداً في تلك الوسائل الإعلاميّة الضخمة العملاقة على المستوى العالمي.
calendar_month02/11/2022 01:47 pm