تعرَّضت جمهورية ألمانيا الاتحادية لمحاولة القيام بعملية إرهابية كبيرة واسعة النطاق، وكانت السلطات الألمانية قد أعلنت عن تفكيك شبكة إرهابية من اليمين المتطرف خططت للإطاحة بالدولة الألمانية، وبنظام الحكم فيها،هذا الخبر يعتبر خبراً صادماً بمعظم معايير الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة.حيث أصدر الادعاء العام الألماني يوم الأربعاء 7 كانون الأول 2022 أوامر اعتقال بحق خمس وعشرون فرداً يشتبه في انتمائهم إلى مجموعة أطلقت على نفسها اسم (مواطني الرايخ) وقالت متحدثة باسم الادعاء العام في كارلسروه إن السلطات شنت الحملة في أحدى عشرة ولاية ألمانية.وإن نحو ثلاثة آلاف فرداً من السلطات الأمنية المتخصصة بمكافحة الإرهاب شنوا الحملة في تلك الولايات الألمانية الإحدى عشر. ويواجه المتهمون تهمة الإعداد لإسقاط الدولة.الجدير بالذكر أنّ أعضاء حركة (مواطني الرايخ) لا يعترفون بالدولة الألمانية الحديثة التي تأسست بعد انهيار النازية الهتلرية، ولا بقوانينها وتشريعاتها، ويمتنعون عن دفع ضرائب والمخصصات الاجتماعية المستحقة عليهم، ويصرّون على أنَّ الامبراطورية الألمانية الكبرى أو(الرايخ الثاني)لا تزال قائمة. وبحسب البيانات الصادرة، فقد أسس المتهمون بنهاية شهر تشرين الثاني عام 2021م تنظيماً إرهابياً لمحاربة مؤسسات الدولة وهيئاتها وممثليها. ويخططون لاقتحام مبنى البرلمان الألماني (البوندستاغ) على غرار اقتحام الأمريكيين الشعبويين المتطرفين في الولايات المتحدة الأمريكية مبنى الكابيتول.وهم مرتبطون أيضاً بفكرة معاداة السامية والعنف بكل أشكاله، والبعض منهم من أتباع (كيو أنون) وهي نظرية مؤامرة من ابتداع اليمين المتطرف الأمريكي، التي تتضمن خطة تفصيلية سرية مزعومة لما أطلق عليها اسم (الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية) ضد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وأنصاره .كما أنّ حركة (مواطني الرايخ) يرفضون فكرة وجود فيروس كوفيد 19 (كورونا).
الجدير بالذكر أن مصادر المعلومات الألمانية قد أكّدت على اعتقال رجلاً ألمانياً يناهز الواحد والسبعون عاماً ينتمي لأسرةٍ نبيلة يوصف بــ (الأمير) ويدعى هاينريش الثالث عشر،مواليد 1951 في (بودينغن)، وهو رجل أعمال في مجال العقارات وهو واحد من أفراد عائلة (رويس).هذا الاسم يشابه هاينريش الثالث عشر أمير غرايتس (1800 ـ 1817) م .
لقد شهدت ألمانيا عبر تاريخها العديد من القوى والأفكار اليمينية المتطرفة والتي تمثلت ذروتها بالفوهرر أدولف هتلر الذي كان زعيماً للنازية الألمانية. كما كانت (رابطة الفايكينغ (Bund Wiking الألمانية وهي منظمة سياسية وشبه عسكرية ألمانية في الفترة من (1923ــ 1928) م. تأسست في 2 أيار عام 1923م في ميونيخ من قبل أعضاء منظمة القنصل المحظورة خلفاً لتلك المجموعات اليمينية المتطرفة.كما نشأت العديد من الأفكار اليمينية المتطرفة كالتي قدمها التربوي والمؤلف السياسي الألماني برنهارد فورستر(1843 ـ 1889) م والتي قدمها الفيلسوف الألماني أوسفالد أرنولد غوتفريد شبينغلر (: Oswald Arnold Gottfried Spengler) .
كما نشأت حركة سياسية ألمانية متطرفة في 20 تشرين الأول عام 2014م حملت اسم بيغيدا (PEGIDA)، أي (وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب) Europäer gegen die Islamisierung des Abendlandes .كما ظهرت في ألمانيا حركة حملت اسم ( المحافظة الجديدة Conservative Revolution)أو (القومية الجديدة Konservative Revolution)) ( 1918 ــ 1933) م وهي حركة بارزة خلال فترة جمهورية فايمار في السنوات الممتدة بين الحرب العالمية الأولى ونشوء ألمانيا النازية.
وافن-إس إس هو كتاب باللغة الألمانية من تأليف القائد العسكري الألماني بول هوسر، وهو قائد سابق رفيع المستوى في القوات الخاصة وقائد مجموعة الضغط وافن-إس إس )هياج.( HIAG وكجزء من أجندة التنظيم التاريخية النفيية، قدمت فكرة الدور العسكري والأمني البحت لــ (قوات الحماية الوطنية (وغيرها.
مما سبق يؤكد أنَّ جذوراً عنصرية في المانيا .لكنها كادت أن تختفي بعد سنوات من العمل ضدها .
لقد كان خبر القاء القبض على حركة (مواطني الرايخ) صادماً بكل معايير الثقافة الألمانية المعاصرة، والثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة التي لها تاريخ طويل نسبياً. فمنذ عقودٍ طويلة لم تشهد الدول الأوروبية الغربية والولايات المتحدة الأمريكية محاولات انقلاب على السلطة الحاكمة، أو وجود تنظيمات سياسية أو عسكرية أو أمنية خارجة على القوانين والتشريعات الناظمة،سعت أو تسعى إلى الإطاحة بالشرعيات الدستورية القائمة، أيضاً لم تعرف أوروبا الغربية هذه الظواهر وتلك الحركات حتى في ذروة الحرب الباردة (1947 ــ 1953) م .عندما كانت أوروبا القارة العجوز مسرحاً واسعاً للصراع السياسي والإيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية.
على ما يبدو أنَّ هذه المرحلة لم تعد تشبه ما كانت عليه أوروبا قبل نحو عشرين سنة ونيّف، فالتغيرات الإقليمية والدولية ما تزال تجري بشكلٍ متسارع وغير مسبوق،حيث أيقظت الثعابين والأفاعي من أوكارها، وباتت بعض الدول الأوروبية لا تختلف كثيراً في وضعها السياسي والأمني عن البلدان التي طالما اعتبرتها منظومة الدول الغربية متخلفة عن ركب الحضارة الإنسانية بشكلٍ عام، والديمقراطية ودولة القوانين والتشريعات الناظمة بشكلٍ عام. وما تم الكشف عنه في جمهورية ألمانيا الاتحادية يصنَّف على أنَّه حالة عن التقاليد السياسية الألمانية وحالة لا يمكن القياس عليها أبداً، لكنها تعطي مؤشرات واضحة وضوحاً شديداً في تغيرات متعدِّدة المستويات في التنوع والقوة ، بدأت تزعزع الأمن والأمان والاستقرار الأوروبي وتغيّر الحالة النمطية التي عرفها العالم عن الغرب الأوروبي ــ الأمريكي، التي سادت بقوة وتجلّت في العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسيطرت إثر انهيار المنظومة الأيديولوجية والعسكرية السوفييتية السابقة. وهذه التغيرات البنيوية كانت نتيجة لأسباب عديدة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : شعور نسبة متنامية ومتصاعدة من النخب الأوروبية على تعدّد مستوياتها واتجاهاتها، بأنَّ الواقع العالمي بدأ يتغير بشكلٍ ملحوظ في غير صالح بلدانهم وتطلعاتهم، وأنَّ السياسات المتبعة خلال عشرات السنين السابقة لم تكن تنظر بعقلانية وموضوعية إلى المستقبل القريب والبعيد لبلدانهم وشعوبهم، وتجاهلت فرضية إمكانية انهيار النظام العالمي الحالي وإعادة بنائه من جديد وفق مقاييس دولية جديدة ومعايير تجعل من الغرب الأوروبي ـ الأمريكي مجرد قطب له دوره الخاص به لا يختلف عن غيره من الأقطاب العالمية الكبرى.
فمنذ عدة عقود كان لكتاب المفكر الاستراتيجي (برتران بادي) بعنوان (أوضاع العالم 2020) أهمية كبرى تناول فيه نهاية الزعامة الأمريكية وحليفها الأوروبي للعالم. وكان عدد من الباحثين الفرنسيين . قد رفضوا قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم منذ ستينيات القرن العشرين،وحسب منظومتهم الفكرية فقد قسّموها مرحلة السيطرة الأمريكية إلى أربع مراحل. المرحلة الأولى: مرحلة تبلور الزعامة الأمريكية بين الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918) م ،والحرب العالمية الثانية (1939 ــ 1945)، وخلال تلك الحقبة الزمنية ارتبطت الولايات المتحدة الأمريكية مع أوروبا اقتصادياً. والمرحلة الثانية : كانت مرحلة الصراع مع روسيا السوفييتية على قيادة العالم في الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأمريكية. والثالثة :هي مرحلة الهيمنة الأميركية التي وضعت هدف إسقاط الاتحاد السوفييتي (وحلف وارسو) من دون مناطحة نووية، ونجحت في ذلك عام 1990م، فسيطرت منفردةً تقريباً حتى عام 2007م. والمرحلة الرابعة: مرحلة الصراع الهادئة مع جمهورية الصين الشعبية على قيادة العالم، ففي مطالع القرن الحادي والعشرين أصبحت الصين (التنين الأصفر) ثاني أكبر اقتصاد في العالم له دور كبير جداً، كما أمّنت الصين جبهتها الدفاعية بالسلاح النووي وأنتجت المزيد منه، وأمّنت الحالة الجيواستراتيجية بجنوب شرق آسيا. وبنت شبكة اقتصادية ضخمة جداً من التبادل التجاري العالمي والتطور الاقتصادي، ودعم الاقتصادات الصغيرة والمتوسطة في قارة آسيا والقارة الأفريقية وبعض دول أميركا اللاتينية، إضافة إلى المشروع العالمي (مشروع الحزام والطريق) الذي بدأته عام 2013. وأصبحت في الوقت نفسه الشريك الأول والأساسي للولايات المتحدة الأمريكية في التبادل الجاري العالمي.
مما سبق يمكننا القول أنّ هناك تغيرات مفصلية في العالم، منها أنّ أوروبا بدأت تتغيّر بشكلٍ واضح وهذا التغير أوجد لها بعض الصدمات الكبرى، وفي حقيقة الأمر أنّ الصدمات الكبرى لم تكن من نصيب العديد من الدول في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط فقط . بل شملت أوروبا نفسها. ففي السنوات الست الماضية، تلقت أوروبا ثلاث صدمات تاريخية قاسية في داخلها، هزّت كيانها بقوة ،وما زالت تعاني منها حتى اللحظة الراهنة. كانت الصدمة الأولى مع (البريكست) وخروج المملكة المتحدة من التكتل الأوروبي، وهذا ما أوجد حالةً من الارتباك في قيادة الاتحاد، لأنّ بريطانيا كانت تشكل ثقلاً اقتصادياً وسياسياً وأمنياً في هذا الاتحاد .لقد أسفر عن هذا الانسحاب عن سجالات ونقاشات ساخنة في كل بلد حول جدوى التمسك بالاتحاد الأوروبي من عدمه، فالاتحاد الأوروبي بدأ في التكوين من ستة دول في عام 1957م. ويتكون الاتحاد الآن من عشرين دولة جمهورية، وخمسة دول ملكية ، ودولة واحدة يحكمها دوق أكبر، وتعتبر كرواتيا آخر الدول التي انضمت للاتحاد الأوروبي في الأول من حزيران عام 2013م. لقد رافق ذلك السجال حول جدوى التمسك بالاتحاد الأوروبي صعود أحزاب اليمين المتطرف. فقد صعد اليمين السويدي إلى السلطة ، كما صعد اليمين الفاشي المتطرف إلى السلطة في إيطاليا. وجاءت الصدمة الثانية مع انتشار جائحة كوفيد 19(كورونا) وما أنتجته من حالة صحية غير مسبوقة أفضت إلى عشرات الآلاف من الوفيات وأعباء اقتصادية واجتمماعية وثقافية كبيرة لم تكن في الحسبان جراء سياسات الحجر الصحي وتوقف عجلات الانتاج في الكثير من القطاعات الانتاجية بسبب الإغلاق.
أما الصدمة الثالثة: وهي الأعنف والأكثر تأثيراً على القارة الأوروبية على المدى البعيد، فكانت مع اندلاع الحرب الساخنة في أوكرانيا،التي كانت لها تداعيات واستحقاقات سلبية على أوروبا والعالم، وما فرضته من أسئلة وجودية هامة في أوروبا، وما يمكن أن تؤدي إليه من تقلبات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وأمنية، فضلًا عن تسديدها ضربة قوية غير مسبوقة للقطاعات الاقتصادية الحيوية، والقطاعات الاقتصادية الكبرى، ولحياة المواطنين الأوروبيين اليومية وحالة الرفاه ورغد الحياة .هذه الصدمات على تنوعها وتعدّدها كان لها الأثر الكبير على الدول الأوروبية الحديثة والتي أظهرت أنَّ الغرب الأوروبي ومعه الولايات المتحدة الأمريكية بدأ يعاني الكثير، وبدأ يتحسّب من إمكانية فقدانه دوره الدولي وما يتمتع به من مركز الصدارة في العالم وفقدانه نشوة القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية الأولى فيه.
إنّ ما قاله كبير المسؤولين الأمنيين في ولاية (تورينغن) جورج ماير إنه يتوقع موجة ثانية من الاعتقالات مع مراجعة السلطات للأدلة. وهذا يدل على الحجم الكبير للخطر الداهم من تلك الحركة اليمينية المتطرفة (مواطني الرايخ) .في هذا السياق الساخن لم يعد مثيراً أن تشهد القارة الأوروبية العجوز في السنوات القادمة مظاهر احتجاج وتمرّد غريبة وغير مألوفة في تلك المجتمعات التي عاشت وتعيش حالةً من رغد العيش والأمن والأمان، لكن ما تم الإعلان عنه، وما ورد من جمهورية ألمانيا الاتحادية، وما أعلنه المدعي العام حول هذه المجموعة الإرهابية (مواطني الرايخ)، يبدو أنه بداية سياق جديد وحالة جديدة غير مسبوقة في الماضي القريب، بدأت تتشكّل في دول الإقليم.