تم الحديث مطولاً بين المفكرين والفلاسفة وصنّاع القرار في العالم قديمه وحديثه حول الدولة وماهيتها وبنيتها وأسسها وأركانها، فانبرى بعضهم يقول : إنّ الدولة مكونة من مجموعة من الأفراد يعملون ويمارسون نشاطهم الإجتماعي والاقتصادي على إقليم جغرافي محدّد .وجميعهم ينتمون إلى منظومةٍ سياسيةٍ يخضعون لها ويتفقون عليها، وهي التي تتولى قضاياهم وهي التي تدير شؤون الدولة، التي تشرف على الأنشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وحتى الثقافية. التي تهدف إلى تطورها وتقدمها وازدهارها، وتعمل على تحسين مستوى حياة المواطنين فيها. في هذا السياق نجد أنّ العالم ينقسم إلى مجموعةٍ كبيرة ٍمن الدول المنتشرة في العالم، وإن اختلفت مناهجها وتوجهاتها وأشكالها ونظامها السياسي. أيضاً يمكننا أن نجد شرحاً وتعريفاً لبنية الدولة وأركانها ضمن اتفاقية مونتيفيديو المتخصصة بشأن حقوق وواجبات الدول وهي معاهدة هامة في التاريخ السياسي الحديث تم توقيعها في مونتفيديو، في الأوروغواي، في 26 كانون الأوّل عام 1933م، خلال انعقاد المؤتمر الدولي السابع للدول الأمريكية.فقد عرَّفت الدولة بأنَّها: المساحة الجغرافية من الأرض التي يمتلكها سكان دائمون يقيمون عليها ويمارسون نشاطاتهم عليها، وممكن أن تكون إقليم محدَّد وحكومة مبنية على أسس وقوانين ناظمة قادرة على المحافظة على الشعب ومقدراته وأمنه، وقادرة على السيطرة الفعَّالة على أراضيها وضبط إيقاع الحياة لمواطنيها، وإجراء العلاقات الدولية التواصلية مع الدول الأخرى.وذلك لأنَّ الدولة مبنية على تجمّع سياسي، هذا التجمع يؤسس كياناً مستقلاً له سيادته الخاصة به ضمن الحدود الإقليمية والدولية، فهو يمارس سلطته عبر منظومة من الإدارات والمؤسسات والهيئات الدائمة، من هنا تم التأكيد على أنّ الدولة هي الحكومة والمواطنين والإقليم ، إضافةً إلى الاعتراف والسيادة بهذه الدولة في المحافل الدولية. بما يكسبها الشرعية القانونية الدولية، ويجعلها أن تمارس اختصاصات سيادتها في الداخل والخارج. لذا فقد تم التأكيد على أنّ الدولة يجب أن تمتلك خمسة خصائص مركزية وأساسية تميزها عن المؤسسات والإدارات والهيئات الأخرى . من هذا المنطلق يمكننا عدّ الدولة بأنها صاحبة القرار الأوّل والأخير، وصاحبة القوة العليا التي تستطيع تنفيذ أجنداتها في المجتمع دون تقييد، وهي بذلك تسمو فوق أية تنظيمات أو جماعات أخرى، مهما كان توجهها داخل الدولة. وقد دفع ذلك الفيلسوف وعالم الرياضيات والقانوني الإنكليزي توماس هويز إلى وصف الدولة بالتنين البحري الذي ينهض من أعماق البحار والمحيطات أو كما يصفه في مكانٍ آخر بالوحش الضخم( لوياثان) .
الجدير بالذكر أن الطابع العام لإدارات ومؤسسات وهيئات الدولة يختلف عن المرسسات والهيئات والإدارات الخاصة للمجتمع المدني . فأجهزة الدولة مسؤولة بشكلٍ مباشر عن صياغة القوانين والقرارات العامة الجمعية ، وتعمل على تطبيقها وتنفيذها في المجتمع . لذلك تأخذ أجهزة الدولة من المواطنين تمويلها المالي . لذا فهي تملك وتحتكر العنف الشرعي ووسائله في المجتمع على رأي الفيلسوف عالم الاجتماع والمؤرخ والسياسي والاقتصادي الألماني ماكس فيبر الذي قدّم أهم النظريات التي عملت على تطوير المجتمع الغربي الحديث .

شهدت معظم دول العالم في العقود الأخيرة عدة تغيّرات مفاهيمية، تلك التغيرات طالت مفهوم الدولة كجهاز مؤسّسي هام يمثل حالة كيانية خاصة، وفي مقدّمة تلك التغيرات مفهوم الحوكمة، بوصفه نقلةً مفصلية حديثة لمفهوم أسبق هو الترشيد أو الرشاد، كما أخذت مفاهيم عديدة كالتنمية نفس تلك الحالة ،وبدأت تتوسّع بشكلٍ سريع ليشمل هذا المفهوم حقولاً جديدة لم يكن مألوفاً مقارنتها أو مقاربتها تنموياً، مثل قطاع التعليم والصحة، حيث إن خطط المؤسسات التعليمية والصحية لم تعد تقف عند حدود الاستجابة لمتطلبات الشعب، بل تعدّتها إلى المسؤولية الكبيرة عن جودة الحياة الإنسانية والعلمية والفكرية والثقافية والتربوية، وجودة الحياة الصحية لجميع المواطنين، وكل هذه التحوّلات المفاهيمية المتعلقة بالجهاز الإداري والمؤسّسي للدولة وبنيانها، لا تنفصل، بل تبقى مرتبطةً بشكلٍ عضوي بالمفهوم الأمّ والأساس المجرّد، أي الدولة.
إنّ من يقرأ بنية نهج الدولة وسلوكها يدرك أنّ الدولة ككيان إذا ملكت القدرة على توضيح وشرح نهجها وتوجهها لا تبدو أنها بحاجة إلى شرح أو توضيح أو تفسير.فمها حاول المواطنون الابتعاد عن التواصل المباشر مع الأجهزة الإدارية والمؤسساتية وهيئات الدولة، لكن وجودهم، في حقيقة الأمر، مستمد في شرعيته من الدولة ومؤسساتها التي ينتمون إليها، لكنَّ هذه الحالة من الصراحة والوضوح هي بحدّ ذاتها إشكالية كبيرة، فارتباطنا كمواطنين بالدولة ومؤسساتها وهيئاتها وإداراتها، مطلق دولة، يجعل منا ومن حياتنا بكل تفاصيلها رهن الدولة ومؤسساتها نفسها، ابتداءً من تاريخ تشكّلها وبنائها، وجغرافيتها، ومستوى تطورها الاقتصادي وانعكاسه على التطور الاجتماعي، ومدى امتلاكها للثروات الباطنية أو فقدانها ، وطبيعة نظام الحكم ،والعقد الاجتماعي، وغيرها من النظم والقضايا الحاكمة للعلاقة القوية بين المواطن والدولة ومؤسساتها، بمختلف فعالياتها وتجليّاتها.
بهذا المعنى يكون المجتمع هو مجال وحّد هيمنة الدولة وقوّاهاوساعد على بسط نفوذها، لكنً هذه الحقيقة على وضوحها وسطوعها، وعلى بساطتها وعدم تعقيدها أيضاً، لا تقدّم لنا قراءةً واضحة وشافية عن كنه وماهية الدولة.وذلك لأنَّ الدولة في سياق تغيّرها وتحوّلاتها المستمرة تعكس مستويات التطورالاجتماعية والاقتصادية، بما فيها طبيعة الرؤية العامة للدولة نفسها، وهي رؤية تختلف اختلافاً كبيراً من حالةٍ إلى أخرى، بحسب صيرورة التاريخ وسيرورته المؤسسة لشكل الدولة وقوامها وكيانها، والتي اكتسبت فيها الدولة معانيها المتعدّدة . 
لقد كان العهد الدولي المهتم بالحقوق المدنية والسياسية قد أقرَّ بما لجميع العائلة البشرية من كرامة وحقوق متساوية أصيلة وثابتة ،ويشكّل وفقاً لمواد الميثاق المعلنة في ميثاق ميثاق الأمم المتحدة.
إن الدول الأطراف في هذا العهد، إذ ترى أنَّ الإقرار بما لجميع أعضاء العائلة البشرية من كرامةٍ وحقوق متساوية أصيلة وثابتة فيهم، ومن يؤسس ويشكّل وفقاً للمواثيق والمبادئ المعلنة في أساس العدل والحرية والسلام في العالم. وهذه الحقوق انبثقت من كرامة الإنسان المتأصلة فيه.وهذا يهدف إلى أن يكون البشر أحراراً متحررين من الخوف والفقر والحاجة ومتمتعين بالحرية السياسية والمدنية، وهو سبيل تهيئة الظروف ليتمكن كل فرد من التمتع بحقوقه السياسية والمدنية. وبالحقوق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.من يتابع المنهج السياسي والأمني للعديد من الدول يجد أنّ العديد من تلك الدول تشكّل مصدر خوف وقلق كبيرين ، وتحديداً في منطقتنا العربية بشكلٍ خاص ومنطقة الشرق الأوسط بشكلٍ عام. وهذا ما يمكن ملامسته في طبيعة العلاقة بمن يمثلهم من الرسميين للدولة وهيئاتها وإداراتها ومؤسساتها، والتي تتّصف بالانفصال بين مستويين اجتماعيين إثنين نوعيين، وهذه العلاقة لا يحوز فيها المواطن أية فسحة أو مجال لمساءلة السلطة وتقييم إنجازاتها ومحاسبتها، بل حتى لا يفكر بوجود هذه الإمكانية أو الفسحة من الأساس، أي المساءلة، فالدولة وممثلي مؤسساتها وهيئاتها وإداراتها، من وجهة نظر المواطن البسيط العادي، ينتمون إلى عالم نرجسي متعالٍ قانونياً وتشريعياً وسلطوياً، وأقصى ما يرغب به هو ألا يضطر المواطن البسيط للتواصل معهم أو إقامة علاقة معهم، ولو كان الأمر يتعلق بمعاملة سهلة في دائرة خدمية من دوائر الدولة التابعة للحي الذي يسكن فيه.
هذه الحالة من التعالي والنرجسية بين الحاكم والمحكوم، تعكس طور حالة الدولة الهوبزية، نسبة إلى الفيلسوف وعالم الرياضيات والمشتغل بالتاريخ والقانون والأخلاق الانكليزي توماس هوبز (1588-1679)، وهو الذي لعب دوراً كبيراً في تطبيق مفهوم العقد الاجتماعي،حيث تتمتّع فيه الدولة بالسيطرة والهيمنة المطلقة، وهي بهذا المعنى، أي الدولة، تصبح متوافقة ومتساوقة مع السلطة، التي تتّسم بصفات مطلقة لا حصر لها ،ففي كتاب اللفياثان عرض توماس هوبز مذهبه حول أساس الدولة أو أساس الدول والحكومات الشرعية وبحث في علم موضوعي للأخلاق شارحاً ضرورة وجود سلطة مركزية قوية تتمكن من تجنب شر الانقسام والشقاق والحروب الأهلية المدمرة يقول توماس هوبز أنَّ هذا سيؤدي إلى حرب الجميع ضد الجميع. إنَّ هذا التعريف الهوبزي للدولة/ السلطة، هو تعبيرفترة خاصة ومحدّدة وهي لحظة تاريخية ضيقة في سياق الدولة، أي ما قبل القطع ما بين الدولة كاستمرار وامتداد للحكم والسلطة، والدولة الحديثة المكونة تعاقدياً، والتي تصبح مجالاً يتجاوز حدود التعبيرات الإدارية والمؤسّساتية إلى تعبير عن المثل في أسمى تجلياتها وحالاتها، أي بوصفها مجال العقل والعدالةوالحرية .
هيمنة الدولة وسيطرتها مرتبطةارتباطاً رئيسياً بمفاهيم ضرورية لجعلها مقبولة ومفهومة، فهذه السيطرة هي شكل من أشكال السيادة، فالدولة وحدها وبموجب الدستور والقانون لها حقّ احتكار العنف، وتفريطها في هذا الحقّ أو التهاون فيه هو مقدمة لانهيار الدولة ومؤسساتها نفسها، لكنَّ هذه السيادة ليست بعيدة عن مبدأ المشروعية أو مفصولة عنه، الذي يشكّل حدّاً على أسلوب وطرائق التبعية والإخضاع،لأنه لا يكفي أن تكون بنية النظام السياسي قادرةً على الإخضاع والتبعية ليكون مشروعاً.
حدود هيمنة الدولة وسيطرتها لها مصدران أساسيان عامّان هامّان، المصدر الأول مستوى الشرعية الاجتماعية، وهو منسجم ومرتبط بقدرتها وإمكانياتها على تحقيق مصالح أوسع الفئات الاجتماعية، مع الأخذ بعين الاعتبار الفئات الأكثر فقراً وحاجةً وتهميشاً، والمصدر الثاني عدم انجرارها إلى ما دون الدولة، كأن تتخلى عن هيمنتها وسطوتها واحتكارها للقوة لفئات من خارج الدولة، من قوى وأحزاب وميليشيات متنوعة الاتجاهات، أو أن تتخلى عن مصدر ومركز مشروعيتها الاجتماعي، لمصلحة قانونية وشرعية من الخارج، من حلفاء مساندين وداعمين خارجيين، أو أن تصبح الأجهزة التنفيذية ذات السطوة فوق القوانين بشكلٍ فاضح وصريح وواسع النطاق.
إن ضعف مستوى هذين المصدرين وتحقّقهما إذا كان لهما وجود، لكن مع تقلّص دورهما وانخفاض مساحة فاعليتهما، تصبح الدولة نفسها حاجزاً ومصدر إعاقة لتطور المجتمع والدولة معاً، وهي لئن كانت تملك القدرة في هذه الحال على تأكيد وتحقيق مستوى ظاهري من الأمن والأمان والاستقرار، فإن هذا السكون والاستقرار بحدّ ذاته هو حالة عطالة وركود، أي إنه حالة هبوط وانحطاط موصوفة قيمياً ومعيارياً، بأدوات قابلة للمعاينة والقياس، لانحدارها التاريخيمن صيرورتها وعبر سيرورتها، قياساً بفتراتٍ سابقة، أو قياساًأو معياراً بتطوّر الدول وتقدمها في إقليمها أو في محيط جغرافيتها أو في أماكن أخرى من العالم، وعلى الأغلب، هذا الدرس التاريخي يمنحنا إمكانية استنتاج دخول هكذا دول وحكومات في حالة من الوقوع في المستنقع لمدةٍ طويلة جداً، أو دخولها حيّز الدول التي حققت فشلاً ذريعاً، وربما تشظيها وانقسامها الكياني والتاريخي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي.
calendar_month20/12/2022 12:46 pm