
في حوار دافىء مع مجموعة من الأصدقاء الألمان سألني أحد المستشرقين بعد حديث مطوّل لي عن تاريخ وحضارة العراق. هل أنت عراقي ؟ فكان جوابي أنني لا أفصل بين فلسطين والعراق . فالعراق مثل فلسطين ، بلد الحضارة الإنسانية العريقة. وكلاهما بلد العلم والعلماء والشعر والشعراء والأدب والأدباء. فلسطين كان مهبط إحدى الرسالات السماوية ومهد الحضارة الإنسانية منذ آلاف السنين . والعراق بلد يتمتع أهلها بعزة النفس والقوة والشهامة والشجاعه والإقدام . وهي المركز والسرة التي أزدهرت في عهد الملك حمورابي وملوك أوروك وسومر وبابل. وهي مهد الحضارات الإنسانية وعاصمتها بغداد عاصمة الرشيد .والعراق ، عراق المحبة والأخوّة. والشعب العراقي هو شعبٌ وفيّ لتاريخهِ وتراثهِ ودينهِ، ووفيٌّ لإخوانهِ العرب.
هكذا نعرف العراق بكل حمولاته، العراق الذي صمد في وجه الغزاة والمعتدين عبر التاريخ . وهو الذي ضربه الإرهاب بهمجيته وسواده وظلاميته ، فأحدث فيه جرحاً نازفاً ، جرحاً غائراً يجتاحه الصديد ، جرحاً لم يندمل بعد، بعد أن اكتوى بنار الاحتلال الأمريكي منذ عام ٢٠٠٣ م الذي دمّر ما بناه الشعب بسواعدهم ، وكاد يشعل حروباً مدمرة وفتناً داخلية تساهم في تمزيق أواصر وحدة شعبهِ وتماسكه. لكن العراق وبإرادة شعبه هو الذي ينهض كالعنقاء من تحت الرماد محلقاً في الفضاء متجهاً نحو الشمس والنور والضياء ليكمل مسيرته الحضارية والإنسانية التي تعود لآلاف السنين، ملهماً العالم بأساليب الزراعة وأصول القوانين والتشريعات الناظمة ، من خلال الحضارات الإنسانية المتعاقبة والتي توالت على أرضه من سومرية وأكادية وآشورية وبابلية، وعربية إسلامية ، يوم كان العالم الغربي يغط في التخلف والجهل ويعيشون في الكهوف والمغاور .
والعراق أرض السواد والخصب والخير والزرع والنخيل الذي كان يغطي كامل أرضه ما بين النهرين، والعراق مهد الحضارات الإنسانية أرض العلم والفكر والثقافة والشعراء والأدباء الذين نشروا أجمله وأنقاه، وما نعرفه عن العراق أنه سيف العرب وحامي جبهته الشرقية، والذي قال فيه الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) «العراق جمجمة العرب، وكنز الإيمان، ومادة الأمصار، ورمح الله في الأرض، وحربة الإسلام، وحصن الثغور، فاطمئنوا فإن رمح الله لا ينكسر»، فتاريخ العراق صفحاتٌ من المآثر العظيمة التي لا تزال ترويها الشعوب.
لقد تغنى الأدياء والشعراء بجمال العراق وعراقته فكان الشاعر محمد معدي الجواهري وعبد الرزاق عيد الواحد . ولميعة عباس عمارة . وغيرهم
ولعل الشاعر العربي العراقي بدر شاكر السياب اختصر العراق حسن قال :
قصيدة الشمس أجمل في بلادي من سواها للراحل بدر شاكر السياب، وهي من اروع القصائد. وقد غنى موال منها كاظم الساهر
الريح تلهث بالهجيرة كالجثام، على الأصيل
و على القلوع تظل تطوى أو تنشّر للرحيل
زحم الخليج بهنّ مكتدحون جوّابو بحار
من كل حاف نصف عاري
و على الرمال ، على الخليج
جلس الغريب، يسرّح البصر المحيّر في الخليج
و يهدّ أعمدة الضياء بما يصعّد من نشيج
أعلى من العبّاب يهدر رغوه و من الضجيج"
صوت تفجّر في قرارة نفسي الثكلى : عراق
كالمدّ يصعد ، كالسحابة ، كالدموع إلى العيون
الريح تصرخ بي عراق
و الموج يعول بي عراق ، عراق ، ليس سوى عراق
البحر أوسع ما يكون و أنت أبعد ما يكون
و البحر دونك يا عراق
بالأمس حين مررت بالمقهى ، سمعتك يا عراق
وكنت دورة أسطوانة
هي دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانه
في لحظتين من الأمان ، و إن تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام
و هي النخيل أخاف منه إذا ادلهمّ مع الغروب
فاكتظّ بالأشباح تخطف كلّ طفل لا يؤوب
من الدروب
وهي المفليّة العجوز وما توشوش عن حزام
وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة
فاحتازها .. إلا جديلة
زهراء أنت .. أتذكرين
تنّورنا الوهّاج تزحمه أكف المصطلين ؟
وحديث عمتي الخفيض عن الملوك الغابرين ؟
ووراء باب كالقضاء
قد أوصدته على النساء
أبد تطاع بما تشاء، لأنها أيدي الرجال
كان الرجال يعربدون ويسمرون بلا كلال
أفتذكرين ؟ أتذكرين ؟
سعداء كنا قانعين
بذلك القصص الحزين لأنه قصص النساء
حشد من الحيوات و الأزمان، كنا عنفوانه
كنا مداريه اللذين ينام بينهما كيانه
أفليس ذاك سوى هباء ؟
حلم ودورة أسطوانة ؟
إن كان هذا كلّ ما يبقى فأين هو العزاء ؟
أحببت فيك عراق روحي أو حببتك أنت فيه
يا أنتما - مصباح روحي أنتما - و أتى المساء
و الليل أطبق ، فلتشعّا في دجاه فلا أتيه
لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء
الملتقى بك و العراق على يديّ .. هو اللقاء
شوق يخضّ دمي إليه ، كأن كل دمي اشتهاء
جوع إليه .. كجوع كلّ دم الغريق إلى الهواء
شوق الجنين إذا اشرأبّ من الظلام إلى الولادة
إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون ، فكيف يمكن أن يكون ؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها ، و الظلام
حتى الظلام - هناك أجمل ، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه ، متى أنام
فأحسّ أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاّ فيه عطرك يا عراق ؟
بين القرى المتهيّبات خطاي و المدن الغريبة
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه ،
فسمعت وقع خطى الجياع تسير ، تدمي من عثار
فتذر في عيني ، منك ومن مناسمها ، غبار
ما زلت اضرب مترب القدمين أشعث ، في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
متخافق الأطمار ، أبسط بالسؤال يدا نديّة
صفراء من ذل و حمى : ذل شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
بين احتقار ، و انتهار ، و ازورار .. أو ( خطيّة)
و الموت أهون من خطّية
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء ..معدنيّة
فلتنطفي، يا أنت ، يا قطرات ، يا دم ، يا .. نقود
يا ريح ، يا إبرا تخيط لي الشراع ، متى أعود
إلى العراق ؟ متى أعود ؟
يا لمعة الأمواج رنحهن مجداف يرود
بي الخليج ، ويا كواكبه الكبيرة .. يا نقود
ليت السفائن لا تقاضي راكبيها من سفار
أو ليت أن الأرض كالأفق العريض ، بلا بحار
ما زلت أحسب يا نقود ، أعدكنّ و أستزيد ،
ما زلت أنقص ، يا نقود ، بكنّ من مدد اغترابي
ما زلت أوقد بالتماعتكن نافذتي و بابي
في الضفّة الأخرى هناك . فحدثيني يا نقود
متى أعود ، متى أعود ؟
أتراه يأزف ، قبل موتي ، ذلك اليوم السعيد ؟
سأفيق في ذاك الصباح ، و في السماء من السحاب
كسر، وفي النسمات برد مشبع بعطور آب
و أزيح بالثؤباء بقيا من نعاسي كالحجاب
من الحرير ، يشف عما لا يبين وما يبين
عما نسيت وكدت لا أنسى ، وشكّ في يقين
ويضيء لي _ وأنا أمد يدي لألبس من ثيابي-
ما كنت ابحث عنه في عتمات نفسي من جواب
لم يملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالضباب ؟
اليوم _ و اندفق السرور عليّ يفجأني- أعود
واحسرتاه .. فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من كان تعوزه النقود ؟ وكيف تدّخر النقود
و أنت تأكل إذ تجوع ؟ و أنت تنفق ما تجود
به الكرام ، على الطعام ؟
لتبكينّ على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك ، دون جدوى ، للرياح وللقلوع
كل ما نرجوا هو أن يتعافى العراق مما ابتليّ بهِ والنهضة من جديد على مختلف المستويات كي يتعافى من آثار الإرهاب والاحتلال، ويعود إلى حضن أمتهِ العربية كي يواصل القيام بدوره الوطني والقومي، ويستعيد وحدته واستقراره وعافيته وأمنه ويستمر في وقوفه مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة .