ما زالت منطقتنا العربية تعاني المزيد من التحديات والتهديدات ، سواء بسبب استمرار النزاعات والصراعات التي أدت إلى تشريد ونزوح عشرات الملايين الذين يحتاجون المساعدات لتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية الأساسية اليومية ، أو بسبب تفشي جائحة كورونا التي كانت عواقبها سلبية على شعبنا العربي ، والتي من المفترض على بلداننا العربية القيام بتكثيف ومضاعفة الجهود من أجل تحقيق العمل المشترك وتكريسه في الواقع، ووضع أطر للأمن الجماعي العربي ، والتكامل الاقتصادي العربي ،والأمن الغذائي العربي ، والتعاون العربي المثمر لمصلحة الشعب العربي.
لم يتوقف العرب يوماً عن التساؤل حول مصير أمتنا العربية وتكاملها ووحدتها ،على الرغم من أن بلداننا العربية تشكِّل جغرافيا إقليمية وسياسية واحدة ، تكمن قوّتها في أهميةِ العملِ العربيِّ المشترك ، وهو عملٌ إقليميٌّ له قيمةً وأهميةً جيوسياسيةً وجيواستراتيجيةً كبيرتينِ ، يُضافُ إليهما القيمةَ الجغرافيةَ والسكانيةَ ، والقوَّة الضخمة الفاعلة للتجمّع البشري ، والعمل المشترك ، وهو في الوقتِ نفسهُ امتدادٌ لأقاليمَ أخرى تشملُ دُولاً وممالكَ غيرَ عربيّة .
في هذا السياق يظهرُ التفكير التطبيقي قوياً عند تساؤلِهِ عن ماهية الصيغة الجغرافية الأفضل للتجمّع الإقليمي العربي داخل الوطن العربي الكبير، الذي يضمُّ بين جنباتِهِ الجزيرةَ العربيّةَ، ودولُ الخليجِ العربيِّ ، وبلاد الشام ، والهلال الخصيب ، والجزيرة العربية والهلال الخصيب معاً ، كوحدةٍ جغرافيةٍ متّصلَةٍ ، وحوضُ النيلِ الذي يضمُّ بين جنباتِهِ جمهوريةَ مِصرَ العربيَّة والسودان ، وإريتيريا ، وإثيوبيا ، وكينيا ، والكونغو ، وبروندي ، ورواندا، وتنزانيا . كما ينشأ التساؤل الآخر حولَ الصيغةِ الجغرافيةِ الأفضل للتجمُّع العربي حول هل هي مِصرَ والسودان فقط دون الدول الإفريقية التي ذكرناها آنفاًتشكِّل وحدةً جغرافيةً متكاملة . 
تلك هي المواقع التي فيها المصالح الاقتصادية للعمل الإقليمي العربي ، وذلك هو المدخل الصحيح في تلك التجمعات ، بخاصة ما تملكه الدول العربية من ثرواتٍ وطاقاتٍ هائلة يمكن أنْ تكونَ على أجندةِ العمل الاقتصادي الإقليمي ، والتي من المفترض أن تسعى الدول العربية لتحقيقها باحثةً عن التنمية والتطوير والتحديث الإقليمي ، وحلّ المشكلات والعوائق الاقتصادية ، ٍوتسويق المنتوجات وتبادلها . فهل يمتلك الوطن العربي استراتيجيةً مدروسةً واضحةً يواجِهُ بها التحديات الصعبة والقاسية ، التي تواجهه والتي تهدِّد حاضرهُ ومستقبلهُ ؟ وهل الاقتصاد العربي القائم يشجع على قيام هذه التجمعات أم أنه اقتصادٌ ريعيٌّ فقط ، ويتناقض مع التجمع والتكامل والتعاون والمشاركة؟
لذا فإننا نجد أنَّ الحالةَ العربيَّةَ تمرُّ في حالةٍ من العبثِ والفوضى والصراعات على مستوى الحكومات ومستوى الشارع . فالمزيج القائم بين حالات الحكومات والشعب الآن من الاحتلال واستباحة الأجانب للأرض العربية ونهب خيراتها وثرواتها ، ومن العجز الرسمي العربي ، ومن التفريط في الكثير من الأحيان بالعزيز والغالي مما نملك.
كما تعاني بلداننا العربية من غياب الحياة السياسية الصحيحة ، ومن فوضى النزاهات والصراعت العربية في أكثر من مكان ، وهذا بمجمله لا يمكنه أن ينتج آمالاً بمستقبلٍ عربي أفضل ، فيه الأمن والأمان والإشراق ، بل إنّ هذا الخليط هو الوصفة الصهيونية لتفتيت المنطقة العربية وتقسيمها على أساسٍ عنصري قبائلي وعشائري ،إثني وطائفي ومذهبي .
ولعلّ أهم المراجعات المطلوبة وأبرزها عربياً في هذه المرحلة القاسية التي تشهدُ جملةً من التحوّلات والمتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة ، هي غلبة الانتماءات الفئوية والشعبوية الأخرى ، ومسألة ضعف الهوية الوطنية الجامعة لجميع أبناء الشعب. لذا فإنَّ هذه الظاهرة السلبية السائدة حالياً في أكثر من بلد عربي هي خلاصةً لما هو قائم من خليط سلبيات أخرى متعدِّدة.
إنَّ ضعف ووهن الهوية الوطنية لصالح هيمنة وسيطرة انتماءات فئوية ضيّقة يعني ضُعفاً في البناء الدستوري والقانوني والسياسي الداخلي . وهذا يعني تسليماً واضحاً وصريحاً من (المواطن) بأنَّ (الوطن) ليس لكلِّ المواطنين نتيجة التمييز والتفريق ، وبأنّ (الوطن) هو ساحةَ صراعٍ ونزاعٍ على مغانم ومكاسب فيه، لذلك يأخذ الانتماء إلى إقلية طائفة أو مذهب أو قبيلة أو عشيرة بُعداً أكثر حصانةً ومنعةً وقوةً من الانتماء الوطني الواحد ، كما يصبح الانتماء الفئوي منصةً أو مركبة سياسية يتمّ استخدامها بطريقةٍ أو بأخرى للحفاظ على مكاسب سياسية أو مغانم شخصية أو لانتزاعها قسراً بالقوة ، أو الخديعة من أيدي آخرين حاكمين.
كذلك فإنّ ضعف ووهن الهوية الوطنية قد يكون هو المدخل للتدخّل الخارجي السافر ، بل وللاحتلال أحياناً، ففي مثل تلك الحالة تتحوّل أولوية الانتماءات الفئوية الضيّقة إلى مبرّرات تقتضي التعامل والتخابر مع أيِّ جهةٍ خارجيةٍ معادية أصلاً للوطن ، من أجل مواجهة الانتماءات الأخرى في الوطن الواحد ، وهذا النمط من الخيانة شاهدناه في غير بلد عربي مثل لبنان والعراق وسورية واليمن وليبيا . فكم من الزعماء العرب وصلوا إلى السلطة وهم على ظهور الدبابات المعادية وتحديداً دبابات دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) . وكان من نتيجة التدخل الدولي المباشر في هذه الدول نموّ دور القوى الإقليمية المجاورة ومحاولتها العبث ببلداننا وما نملك من مقدرات وثروات .
إنّ وهن الهوية الوطنية المشتركة وضعفها هو تعبيرٌ صريحٌ وواضحٌ عن فهم خاطئ للانتماءات الأخرى. فالاعتقاد بمذاهب دينية متعدِّدة ومختلفة ، أو الاعتزاز بأصول قومية (إثنية) أو قبلية ، هو ظاهرة صحّية وطبيعية في مجتمعاتٍ تقومُ على التعدّدية وعلى الاختلاف السائد في البشر والطبيعة. لكنَّ تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف سياسي يتسم بالعنف مع وجود صراعاتٍ ونزاعاتٍ إنقساميَّةٍ دمويةٍ يعني تصادماً وتناقضاً مع الحكمة في التعدّد والاختلاف ، فيكون المعيار هو محاسبة الآخرين على ما وُلدوا عليه وبه ، وليس على أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم. وهذا بحدِّ ذاته مخالف للشرائع الدينية والقوانين الدنيوية كلّها.
لذا من الضروري أن تكون مسؤولية تصحيح الأوضاع القائمة الآن في منطقتنا العربية ، وهي مسؤولية شاملة متكاملة معنيّ بها الحاكم والمحكوم على حدٍ سواء ، وهنا تجدر الإشارة الهامة إلى أنَّ الإصلاح يجب أن يبدأ بالدرجة الأولى في البنى الدستورية والسياسية والقانونية ، ليجد كل مواطن حقّه الطبيعي في الانتماء الوطني المشترك ، ولكي يرتفع شأنه إلى ما هو أرحب وأوسع من الانتماءات الفئوية العصبوية الضيّقة . في هذا السياق لا نستطيع إغفال دور ومسؤولية الحركات الفكرية والسياسية ومؤسسات المجتمع المدني ، والمنتديات الفكرية والثقافية ، ووسائل الإعلام العربية ، والمتفقهين بالدين ، في التعاطي السليم مع الأحداث والمستجدات الوطنية ، وفي طرح الفكر السياسي والديني الجامع بين المواطنين ، لأنه ليس هناك من داعي لإحداث أي فتنةٍ بينهم . من هنا علينا أن نفهم ضرورة تعزيز وتثبيت فكرة الهوية الوطنية التي تتطلّب إعادة الإعتبار من جديد لمدلول ومفهوم العرب والعروبة على المستوى العربي الكامل ، ونحن نعلم علم اليقين في الآن ذاته أنّ تحقيق أوضاع دستورية وتشريعية وقانونية سليمة في كل قطرٍ من أقطار الوطن العربي سيكون له دور هام في بناء علاقات عربية ـ عربية أفضل، وذلك لضمان ديمومة أيّ صيغ تعاون عربي مشترك لأنه أمرٌ هام وضروري .
في حقيقة الامر يمكننا قراءة الواقع العربي من خلال فهمنا ومعرفتنا لماهية الهوية العربية المشتركة ، فإذا كانت الهوية العربية المشتركة ضعيفة كما نشهده الآن في واقعنا العربي نتيجة ضعف ووهن الهوية الوطنية المترافقة مع طوفان من التسميات الدينية الطائفية والمذهبية والإثنية على المجتمعات العربية ، تصبح العروبة حلاً كبيراً وهاماً لأزمة العلاقات بين الأقطار العربية ، وحامياً اجتماعياً وثقافياً يحمي الوحدات الوطنية في كل قطر عربي ، ويمكنه في الآن ذاته من مواجهة الإنفجار الداخلي في كل قطر عربي ومجابهته. 
المعضلة الأساسية التي نعاني منها نحن العرب تمتد لنحو مائة عام من النزاعات والصراعات المتتالية بين هويات مختلفة ، ومن عدم فهم لطبيعة العلاقة بين الهويات المتنوعة والمتعدِّدة .    
فهويّة شعبنا العربي المنتشر على كامل الجغرافيا العربية ، هو مزيج مركَّب من الهوية التي يمكننا تسميتها بالهوية القانونية الوطنية ، وهي التي كانت نتيجةَ ولادة الأقطار العربية في عشرينيات القرن الماضي ، وهويةً ثقافيةً عربيةً لها خصوصيتها وتاريخيتها التي تمتد عبر مرحلة صيرورة وسيرورة لغتنا العربية ، وهي في الآن ذاته هوية حضارية لها صبغة دينية مرجعها الرئيسي ارتباط لغتنا العربية بالقرآن الكريم : (إنّا أنزلناهُ قرآناً عربيّاً لعلّكم تعقلون) سورة يوسف الآية 2 . كما أنَّ هويتنا العربية هوية حضارية كون أرضنا العربية شهدت مهبط الرسالات والرسل والأنبياء السماوية .وهذا أمرٌ طبيعي وحقيقي مُلزِم إلزاماً كبيراً لكل شعبنا العربي الذي يعيش على امتداد رقعة وطننا العربي الجغرافية .كما قال الأستاذ فخري البارودي : (من الشَّامِ لبغدانِ ، ومن نجدٍ إلى يمنٍ ، إلى مِصرَ فتطوانِ) . بغضّ النظر عن أصولهم الأولى أو معتقداتهم الدينية، وحتى لو لم يقبلوا فكرياً الانتماء لكل تلك الهويات على تنوعها أو بعضها . 
لم يتوقف الغرب الاستعماري بعد اندحار الاستعمار التركي عن القيام بالعديد من المحاولات على امتداد أرضنا العربية عن تشويه معنى الهوية العربية ، والحط من قيمتها وقدرها ، فقد تعدّدت الأساليب والمصادر لجعل الهوية العربية في حالةٍ غير منسجمةٍ يلفّها التناقض مع التنوّع العرقي والديني الذي تنهض عليه الأرض العربية منذ قرونٍ عدّة . وهذا ساهم في التأكيد على انّ هناك مشكلة (أقليات) مرتبطة بشكلٍ غير صحيح للهويتين الوطنية والعربية ، من هنا جاءت فكرة الانفصال التي عمل عليها الغرب طويلاً فكان انفصال السودان عن جنوبه ، وانفصال شمال العراق عن جنوبه ووسطه ، كما يتم العمل على تحقيق هذا المشروع في العديد من البلدان العربية في الوقت الحالي والمستقبل ، فبعد تقسيم اليمن إلى يمنين شمالي وجنوبي يجري تقسيمه على اسس مذهبية . إلخ..   
 مع أنَّ أساس المشكلة يتجسّد في غياب حقوق بعض مواطني الدولة ، وهو تعبير عن جهل طريقة الممارسة السليمة لمفهوم المواطنة ومدلولها ، وليست قضية الهوية .فلو عدنا قليلاً إلى الوراء لوجدنا أنّ المحتل الغربي بكل انتماءاته يسعى لنزع الهوية العربية من أهلها ، واستبدالها بهوية أوسع من جغرافية الوطن العربي بهوية شرق أوسطية . ونزع الهوية الوطنية المحلية للمواطنين واستبدالها بهويات طائفية ومذهبية وعرقية . كل ذلك من أجل تسهيل الهيمنة المطلقة على دولنا وشعبنا العربي ، ونهب خيراتنا وثرواتنا . والمؤلم في الواقع العربي أنَّ الأمّة الواحدة تتصارع فيها هويات صغيرة مختلفة على حساب الهوية الكبرى ، وهي هوية عربية مشتركة لها ميزاتها وخصوصيتها ، بعض تلك الهويات الصغرى القاتلة هويات طائفية وهويات إقليمية ، وبعضها الآخر هويات أممية وهويات عولمية . والمقصود في هذا السياق أن تنزع الأمة العربية هويتها الأصيلة وتلبس هويات فرعية قاتلة هدفها تمزيق الأمة وشرذمتها أكثر مما هي عليه .وهذا ما يسبب انقسامات حادَّة في المجتمع العربي الواحد ، ويؤهّل لقيام حروب طائفية وحروب أهلية داخلية تدمِّر كل شيئ . 
إنَّ السعي الحثيث للعودة إلى العروبة يهدف إلى حماية مجتمعاتنا العربية في الداخل ، وتحصّنها بشكلٍ قوي من سيطرة وهيمنة الخارج . ومن أجل بناء أسس وركائز متينة لتعاون عربي مشترك قادر على تحقيق آمال وشعوب أمتنا العربية وضمان أمنها ومستقبلها .
calendar_month14/04/2023 11:27 pm