كانت وما تزال الأنظمة السلطوية تسعى بكل ما تملك لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية، لأنّها تعتبرها من أهم مظاهر النظم الديمقراطية، على الرغم من أنَّها أنظمة استبدادية تحكم بقوّة القمعِ والقهرِ بهدف ستر عَوراتها، وسوءاتِها السياسيّةِ والأمنيةِ والاقتصاديةِ، ومن أجل تعزيزِ وتثبيتِ الحُكم السُلطوي الاستبدادي، وإطالة أمَدهُ في السلطة كونهم أقليّة حاكمة. من هنا نجدتلك الأنظمة السلطوية الطاغية تتسابق على عقد الانتخابات والاستفاتاءات بشكلٍ دوري ومنتظم. ومعظم الدول الشمولية في العالم حريصةٌ كلَّ الحِرصِ على إجراء الانتخابات، سواء الرئاسية أوالبرلمانية بشكلٍ دائم ومنتظم. في حين تَعلَم تلكَ الأنظمةُ السُلطوية إنَّ أيّ انتخاباتٍ تجري في بلادها تكونُ انتخاباتٍ صوريةٍ، والهدفُ الرئيسي هو الحفاظ بأي شكلٍ من الأشكال على الشرعية الشكلية، والتي من خلالها يمكن للحكّام الطغاة والمستبدين، إعطاء انطباع للمواطنين وللعالم بأنهم مُنتَخَبونَ ديمقراطياً، وأنّهم يحظون بدعم الشعبِ وتأييده حتى لو تم التلاعب بصناديقِ الاقتراع بكافة الأشكال، وهذا ما شاهدناه في معظم حالات الانتخاب في العديد من الدولٍ العربية والدولية. والتي كانت تعطي نتائج الانتخابات 99،99% المترافقة مع غياب أيّ مرشح منافس آخر .
كما أنَّ عملية تدجين المعارضة واحتواءَها سياسياً قد لَعِبَ دوراً كبيراً في بنية تلك الأنظمة، وذلك من خلال إعطائها بعض المقاعد في البرلمان، بحيثُ لا تؤثِّر على قرارات النظام وهيمنته على البرلمان والحياة السياسية العامة. حتى لا تتمكَّن أيّة قوّةٍ أو حركةٍ سياسيّةٍ أو حزبٍ التأثير في البنيةِ التشريعيةِ للبرلمان. إضافةً إلى قيام السلطة الحاكمة بشقِّ صُفوفِ المُعارضةِ، على الرغم من عدم تماسك تلك المعارضات من خلال استقطابات سياسية ومجتمعية صارمة. لانَّ شعار تلك الأنظمة يستند على قاعدة (فرِّق تسُد) وبذلك يضمن المستبدّون والطغاة عدَمَ وجودِ تياراتٍ أو جبهةِ مُعارضة يمكن أن تمثِّل تهديداً ولو نسبياً لِحُكمِهم.
الجديرُ بالذكر أنَّ التصويت في الانتخابات التي تجري في الدول الشمولية ليس سرياً، وفي غالب الأمر يتم الضغط بشتى الطرق على الناخبين لدعم مرشحي السلطة، وكثيراً ما يكون انتخاب رئيس البرلمان مرشح واحد فقط يتم التصويت له إما بنعم أو لا، ويخضع ذلك لرقابة علنية وسريّة .
لم يكن غائباً عن الجماهير يوماً ما أنَّه يتم شراء الولاء وتوزيع الغنائم على الناخبين المؤيدين للنظام الحاكم من خلال ضمان بعض المكاسب الاجتماعية والمادية والسياسية الشكلية، كما تسمح لهم السلطات الحاكمة بقدَرٍ مناسب من الهيمنة والنفوذ السياسي والمجتمعي. وتمنحهم غطاءً قوياً لتنفيذ عمليات السرقة والنهب والفساد والأعمال غير المشروعة من خلال منحهم حصانة قانونية، وهذا ما يتوافق مع شراء عدد من المقاعد البرلمانية داخل العائلة الواحدة أو الطائفة أو العشيرة لأبنائهم وأقربائهم .
النظام الحاكم المستبد استفاد استفادةً كبيرةً من أفكار الفلاسفة الذين وضعوا قواعد وأسس الحكم القوي مثل الكاتب مايكل هوسكيلر أستاذ الفلسفة ورئيس قسم بجامعة ليفربو. فقد كتب مساهمات كبيرة حول كيف يشرح الفلاسفة الفوضى السياسية في مقالة قال فيها: (قبل كل شيء علينا التخلي عن فكرة أن العالم منظم بطريقة عقلانية).كما جادل الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور Arthur Schopenhauer 1788 –1860 م مؤلف كتاب (العالم إرادة وفكرة) حيث يقول :بأن جوهر كل شيء - وهذا يشملنا - ليس المنطق، وإنما الإرادة العمياء.كما وصف الفيلسوف العبثي والمسرحي والروائي الفرنسي ألبير كامو Albert Camus ( 1913 ـ 1960) العالم بأنه مكان غريب لا يهتم كثيراً باحتياجاتنا ورغباتنا الإنسانية.واعتقد الفيلسوف اليوناني أرسطو قديماً أنَّ التفكير الفلسفي هو كمال الحياة البشرية. ربما بالغ قليلا نوعاً ما، ولكن يجب أن لا يكون هناك أيُّ شكٍ في القيمة التي يضيفها التفكير الفلسفي إلى حياتنا وتفسيرها. كما كان من أفكار الفلاسفة الذين وضعوا قواعد وأسس الحكم القوي ما كتبه المفكر والفيلسوف والسياسي الإيطالي نيكولو برناردو دي ماكيافيلي : Niccolò di Bernardo dei Machiavelliفي كتابه (الأمير) الذي صدر عام 1518 م. بهدف السيطرة على الدولة ورجالاتها في الداخل، وتقوية نفوذه وسلطانه في الخارج. فقد عَمَدَ الحُكّام المُستبدّون على الاعتماد على جمع المعلومات الكاملة والدقيقة عن الانتماءات السياسيّة لمواطنيهم بشكلٍ تفصيلي، والتي يمكن استخدامها في الوقت المناسب، من أجل الهيمنة عليهم هيمنة شبه مطلقة، وكثيراً ما استخدمت السلطات الاستبدادية الحاكمة هؤلاء القادة والمتنفذين، لاستهداف الشخصيات الخطيرة على النظام، وكذلك الجماعات الذين ينظر إليهم بعين الريبة والحَذَر، والذين قد يشكّلون تهديداً مباشراً أو غير مباشر للنظام، أو يُستَخدَمون لتحديد المؤيّدين للنظام الحاكم، والذين يمكن الاستفادة منهم ومكافأتهم على دعمهم وولائهم للنظام.وهنا نجد الحاكم الطاغي حذِراً ولا يمكنه أن يكون واثقاً كلَ الوثوق بمن حوله من أعوان، لأنَّ ثقته المفرطة ستكسبه سمعة المغفَّل، وعدم الثقة ستظهره بمظهر الغير متسامح. هنا تكمن قدرة الحاكم وذكائه في التعامل مع الرعية ومن يحيطون به. لإيمانه بأنَّ الرجال بشكلٍ عام جاحدون، جشعون، طليقوا اللسان، يحرصون على تجنّب المخاطر، طالما أنهم مستفيدون من الحاكم، والحاكم يدرك تمام الإدراك أنه يملكهم بشكلٍ كامل، لأنهم يعرضون عليه دمائهم وسلعهم وأطفالهم عندما تكون المخاطر بعيدة. ولكنهم يتمرّدون وينقلبون عندما يقترب الخطر، وهكذا فإنَّ الانتخابات تتيح للحاكم انتقاء بطانةٍ جديدة تدين له بالولاء المطلق. ولكن الحاكم الغير فطن الذي يعتمد على كلماتهم دون الاستعداد لمفاجآت قادمة، أواتخاذ إجراءات أخرى، سيزول حكمه لأنّه اشترى صداقتهم ولم ينلها بنبله وقوته وعظمة روحه. ولأنّ الرجال يتردّدون في إهانة ملهمي الخوف مقارنةً بملهمي المحبة والسلام، وذلك لانَّ الحُبَّ يتماسك بسلسلة طويلة من الالتزامات التي سيكسر ضوابطها الرجال فور خدمة أغراضهم ومراميهم. لكن الخوف يتماسك برعب من العقوبة القاسية لا يفشل أبداً .
كما يمكن أن تكون الانتخابات التي تجري ضمن هذا السياق لتخويف وإرعاب المواطنين المعارضين للنظام القائم. فالتصويت لغير مرشحي النظام قد يُفهم على أنَّه عِصياناً وتمرداً ومعارضة للنظام، مما يستدعي الوقوف في وجهه، والتصدي له بالأدوات القمعية المعهودة حتى لا تتوسَّع دائرة المعارضين والرافضين للسلطة الحاكمة والنظام بشكلٍ عام .فالحزب السياسي الحاكم أو الأحزاب السياسية المشاركة في الحكم مسؤولة بشكلٍ مباشر على الشعب في شقّه الاجتماعي والسياسي، حيث تتمثّل المسؤولية الاجتماعية كون المواطن هو الذي يقطن في البلد وعليه ستجري القوانين والتشريعات الناظمة، والشق السياسي هو الذي يمارس الانتخابات، والسياسيون هم الذين يهتمون بمن يُمارس الانتخابات، ولا يهتمون بالمواطن الذي يقطن البلد والذي من المفترض أن تكون نتائج الانتخابات لصالحه، على الرغم من أنه يشكِّل الأغلبية في الدولة (المواطنة)، والنتيجة النهائية نجد أنَّ شعبية الحكومة تتقلّص وتتراجع، وأحزابها مهدّدة بالانشقاق والتلاشي والانقراض، وبالتالي فقدان البوصله التي تحدِّد أهداف البناء المجتمعي والسياسي، نتيجة سطوة الطغاة والمستبدين. هؤلاء الطغاة يشعرون بمتعةٍ مضاعفة عندما يخدعون المُخادِع ،متبعين ما غرسه ميكافيللي من أفكار تدعو الطغاة إلى تقييم حكم الحاكم من خلال النظر إلى الرجال المحيطين به.والدعوة لاعتبار الدين كضرورة للحكومة وليس لخدمة الفضيلة، ولكن من أجل تمكين الحكومة من السيطرة على الشعب. كما يلجأ الحكام الطغاة إلى أسلوب الظهور بمظهر الرحمة وليس القسوة بشرط أن لا يسيء استخدام هذه الرحمة ، ولا ينبغي على الحاكم إظهار القسوة من أجل إبقاء رعاياه متحدين، وهو وحكومته من يحق لهم ممارسة العنف بموجب الدستور والقوانين الناظمة. لذا فإنَّ الانتخابات تسير وفق تلك القاعدة المنظورة وغير المنظورة .
إنَّ منهج الانتخابات وهدفها المُعلن وغير المعلن يُراد له أن يكونَ لصالح النظام أولاً وأخيراً، فالانتخابات ولو كانت صورية وشكلية إلَّا أنها تمثِّل وسيلةً هامة وضرورية لاكتساب الاعتراف الدولي بالنظام والسلطة الحاكمة، بخاصة إذا كان يواكبها حضورعدد من المراقبين الدوليين، وهذا الحضور يمكن للمستبدين الطغاة أن يعطوا انطباعاً ما، بأنهم ملتزمون تمام الإلتزام بالعملية الديمقراطية ولو بشكلٍ صوري. من أجل الحصول على صك اعتراف بالشرعية وهو الذي يحتاجه النظام حتى ولو حصد من الأصوات أعلاها التي بلغت في العديد من البلدان نحو 99،99% ،وهذه النتيجة يعتبرها النظام مؤشِّر لعدم وجود معارضة أو منافسة من التيارات والقوى الأخرى لأنه كان قد سحقها وسحل أعضائها، فالانتخابات التي تكون نتائجها ضمن هذا المستوى تسمح لشركات الاستثمار الأجنبي للقيام بمشاريعها في البلد، لأنها بنجاح الانتخابات فيها تتجنَّب شكل من أشكال العقوبات التي قد تنتج بسبب تأجيلها أو إلغائها. وبذلك يتم تعزيز توطين الاستبداد وإطالة أمد الأنظمة المستبدة والقمعية التي تستند في دستورها على حق الدولة في استخدام العنف ضد مواطنيها. كل ذلك يكون بديلاً عن وجود آلية ديمقراطية مهمتها محاسبة قادة النظام والمسؤولين الكبار وضمان تداول السلطة .