كان للخطابِ السياسي وما يزال، له دور كبير في التعبير عن مواقف وآراء فرد أو جماعة، أو حزب سياسي معيّن، أو حكومة ما، بهدف الحصول على الحكم، أو الحصول على سلطة معيّنة، والخطاب السياسي في هذا السياق يعرَّف بأنّه شكلٌ من أشكال الخطابات المتعدِّدة، كلُّ ذلك يدفع إلى وجود سُلطة ما عند حدوث أي نزاع، أو خلاف سياسي، لذا فإنَّ الجهة المستخدمة للخطاب السياسي ترى أنَّ له أهميةً كبيرة تعودُ بالفائدةِ لِمَن يستطيع استخدام الخطاب، لاعتباره أداةً ضروريَّةً لاكتساب السُلطةِ والحُكم. حيثُ تلجأ له القوى السياسيّة المختلفة، بهدف الوصول إلى المناصب العُليا في السُلطة، واكتساب المشروعية من خلال عملية الإقناع للجهة الموجّهة للخطاب السياسي، وتلقّي القبولُ والاقتناع، وتجاوز الصراع بمصداقيتة. باستخدام القرائن والبراهين والحُجَج، مع توظيف خاص ومميَّز للوسائل اللغوية الصحيحة، والمتميِّزة بمنطقيتها وواقعيتها. كما تستخدم القوى السياسيّة ضِمنَ أسلوب الخطاب السياسيّ لغةَ الجَسد والجُمَل التعبيرية التي تُناسِب الأفراد والجماعات، واستخدام الموسيقى والصور التي تُناسب المَقام والموقِف الذي يتمُّ إلقاء الخطاب السياسيّ على أساسِهِ.
في حقيقة الأمر، فإنَّ السياسة في توجّهها الظاهر، تقومُ على الخطاب. وذلك لأنَّ الإدارة أو المؤسسة تكشف عن نفسها وتوجّهها أمام الشعب عبر الخطاب السياسي. فالعديد مِنَ الحُكومات والأحزاب والدول، تعلن عن أهدافها وماهيتها وخططها من خطاب سياسي، له مواصفات مؤسَّسة على قواعد محدَّدة ومرجعيات معيَّنة. من هنا تكمن أهمية الخطاب السياسي وقدرتَهُ على تبنّي مرجعيات وأيديولوجيات لها قاعدة شعبية واسعة، أو ذات مصالح واهتمامات محدَّدة. بهذا المعنى يكون الخطاب السياسي شكل من أشكال الإيديولوجيا، لأنَّه يعتمد على التركيز على الماضي في محاولة توجيه ذلك الماضي إلى إرادة محدَّدة، ويتحرَّك هذا التاريخ منذ صيرورته الاولى، وعبر سيرورته التاريخية، وهذا ما يفسح لوجود سرديةً خاصة عن المستقبل . وتصبح المؤسَّسة بكل قدراتها وما تملك، الحامل الذي يُعوّل عليه في تحقيق القادم من الأيام والمستقبل المنشود. وعلى الشعب أن ينخرط في المؤسَّسة التي أصبحت حامِلاً لتلكَ المسؤوليات، كما على الشعب أن يناصرها من أجل الدفع العملي، باتجاه تحقيق الأهداف والمرامي في المستقبل المنشود، وجعل السردية التاريخية الماضية واقعاً متحققاً، واستشعار المستقبل الذي يمكن أن يتحقَّق على أرض الواقع. كون الخطاب السياسي يتضمّن المَصالح، لكنَّه لا يتعاطى معها بشكلٍ مكشوف، وإلّا فَقَدَ بريقه ووهجَهُ، وفَقد دعائم انتمائه إلى عالم السياسة من جهة، وعالم القِيَم والمُثُل من جِهةٍ ثانية . فالخطاب السياسي في سعيهِ إلى الانتماء إلى عالم السياسية، عليه أن يتشبَّث بالقيم والمُثُل العالية، وأن يجعل منها أيقوناتٍ لها قيمتها ورمزيتها العالية إذا ما لزم الأمر، لا يأتيها الباطل من أمام أو من خلف، فأيُّ مساسٍ بالرموزِ والأيقوناتِ هو مساسٌ بالمشروع الأيديولوجي الذي يدافع عنه الخطاب السياسي أو يبشِّر به. وبالتالي هو تهديم وتقويض للمؤسسة نفسَها التي حَمَلت على عاتِقها مسؤولية تحقيق المشروع المستقبلي، ولمصالح المشرفين والقائمين عليه. والمستفيدين من تلك المؤسَّسة .
الجدير بالذكر أنَّ الخطاب السياسي يقوم بعدّة وظائف هامة، منها وظيفة الخبر التي تعتبر من أهم الوظائف التي يقوم عليها الخطاب السياسي ،وهو إيصال الخبر للشعب بطريقةٍ صحيحة ومقنعة، كما يقوم الخطاب السياسي بوظيفة المعارضة والمقاومة حيث يعمل بشكلٍ رئيسي على تقديم الاحتجاجات والمعارضات على سياسة متبعة في المجتمع الذي يعيش فيه، ويتفاعل معه، إضافةً إلى مقاومة هذه المناهج السياسية، وذلك النظام المتبع من أجل تغييره، والحصول على نظام آخر يتوافق مع المعارضين وأهدافهم. كما يقومُ الخطاب السياسي بوظيفةِ إخفاء الحقيقة وتزييفها، وإخفاء الآراء التي تصب في سياق الصدق وقول الحقيقة، وتقديم حقائق أخرى مغايرة، وغير الموجودة، والمتداولة والمتبعة من قِبَل أفرادٍ أو جماعاتٍ معينين. كما يُساهم الخطاب السياسي في منح الشرعية على حزب أو حكومة أو أفراد، كما يُساهم في نزعها حسب مصالِحِهِ. وهذه الوظيفة تقوم على إعطاء السلطة لمجموعةٍ معيّنةٍ، أو لحزبٍ أو لحكومةٍ أخرى، أو انتزاع السُّلطة مِنَ القائمين عليها. إنَّ تلك الأدوار وتلك الوظائف للخطاب السياسي يعتبر الخطاب، خطاباً سياسياً صرفاً، وإذا خلا الخطاب من إحدى هذه الأدوار وتلك الوظائف، لا يمكن أن يتمّ وصفه بأنَّه خطابٌ سياسيٌّ. ومن خصائص الخطاب السياسي، أنه يقوم على الثناء والمدح على منهج سياسي محدّد ومتبع في المجتمع، أو الاحتجاج والمعارضة، والانتقاد السياسي بطريقةٍ مباشرة، إضافةً إلى الدفاع المستميت عن الاختبارات والبرامج ذات الطابع السياسي التي يتم برمجتها، ووضعها من قِبَل جهةٍ معيَّنة أو لإيجاد طرق وبرامج بديلة عن البرامج المتداولة والمتبعة. قد يكون هدفهُ ومراميه، بث الأمل والتفاؤل بالمستقبل القريب والبعيد. أو يجهد ساعياً لرؤيةٍ سياسيَّةٍ مختلفةٍ منهجياً، برؤية الخطاب السياسي من قِبَل الأغلبية الساحقة من الشعب. والتي يجب أن تتصف بنيته وماهيته بالترابط والتماسك، والتي تَستندُ على أيديولوجيا محدَّدة، يؤمنون بها، ويعملون وفقها، ويسيرون وفق منهجها. على أن تكون لغة الخطاب السياسي المتّبعة به لغة مائلة إلى صيغة الأمر والإجبار، تارةً بشكلٍ واضح وصريح وتارة تلميحاً.
ولأنَّ هذا الخطاب، يعتمد بشكلٍ أساسيّ على البلاغَةِ والتقعير اللغوي في بعض الأحيان. لأنّ الهدف الرئيسي والهام من ذلك الخطاب التأثير العاطفي على المُستَمعين والمُتلقين. يتّصف الخطاب السياسي بأنّه خطابٌ طويل، ويستغرق طويلاً أيضاً في الحديث المفصّل عن قضيةٍ ما، مستخدماً العديد من العبارات والجُمَل التي يكرِّرها باستمرار كي تَعلق في الأذهان.وتصبح جزءاً من الوجدان الشعبي.
هذه العلاقة البنيوية بين السياسة والخطاب السياسي، تطرح العديد من الإشكاليات، فعلمُ السياسة أولاً وأخيراً ينتمي إلى عالم التجسيد والواقع، بينما يلتمس الخطاب السياسي الكثير من الطوباوية، التي تمدّه بأسُس وأسباب الشرعيّة، وتؤمّن له مساحةً اجتماعيةً ـ تاريخيةً واسعةً يتحرَّك فيها، من خلال ديناميّاتها واستطالاتها ومحاورها، وهو أكثر فاعليةً وقدرةً في التعاطي مع ممكنات المساحات الاجتماعية الواسعة والضيقة من المصالح المجرّدة، فالبَشَر في نهاية المطاف ليسوا مجرّد كائنات حيّة مصلحية فقط، وحتى مصالحهم الخارجة عن القوانين والنظم التشريعية تحتاج إلى تبرير، وهو بالفعل ما يقدّمه الخطاب السياسي لهم.
لم يتوقف البحث يوماً عن سبب نشوء الخطاب السياسي، وهو على الأغلب سبب طوباوي، نشأ نتيجة الاحتياجات الواقعية الملحّة، دون أن يعني ذلك أنه حاجة منطقياً وواقعياً، أو قادراً على تحقيق المتطلبات والاحتياجات الواقعية، وهذه النقطة حسَّاسة تعتبر نقطةً من أهم النقاط التي يمكن أن يرتكز عليها تقييم الخطابات السياسيّة .
كما أنَّ الخطابات السياسية الواقعية في زمان ومكان محدّدين، ليست بالضرورة قابلة للاستمرار في شكلها وبنيتها إلى ما لا نهاية، فتحوّلات الواقع نفسها تفرض تحوّلاتها على الخطاب السياسي المتداول، وتدفعه إلى التجديد أو الانزياح، وفي كلتا الحالتين فإنَّ من يدفع الثمن غالياً، سِلباً كان أو إيجاباً هو الواقع المعُاش الذي ينعكس بشكلٍ مباشر على الشعب .
لقد شهد العالم في فترة (ربيع الأمم) تحوّلاً كبيراً، والمعروف عالمياً بـ (ربيع الشعوب) أو (الثورات الأوروبية) عام 1848م الذي شَمَلَ نحو خمسين دولة بعد قيام الثورة الفرنسية، بهدف إزالة الهياكل الاقطاعيةِ القديمةِ وخلق دول وطنية مستقلّة. في تلك المرحلة صعد الخطاب السياسي القومي في أوروبا بشكلٍ قوي مدفوعاً بتطوراتٍ هائلةٍ جداً على مُعظم الأصعدة كانت قد أحرزتها الثورة الصناعية الأولى خلال أكثر من قرن من الزمن. وهذا الصعود المتسارع للخطاب السياسي القومي، جاء كاستجابة موضوعية لتحوُّلات الواقع، وعمليات التغيير الجارية، وظهور الطبقة البرجوازية، وسعيها الحثيث إلى إنهاء الحكم المطلق، والسطوة الاقطاعية، وتأسيس دول وطنية مستقلة، على أساس قومي، وهذا ما قوَّض العديد من الإمبراطوريات التي كانت قائمة منذ عقود، وأرسى مكانها (الدولة/ الأمة)، بشكلٍ جديد من الحكم وإدارته بكفاءة عالية، يتناسب طرداً مع الصعود الرأسمالي الجديد في القارة الأوروبية. وكان لزاماً على تلك الدول أن تنتج خطاباً يتسم بالبُعد الإنساني، هدفه إنتاج منظومة معرفية وثقافية جديدة تقارب الأمور من زاوية المصالح القومية والإنسانية المتبادلة وتنقل المعرفة إلى أوسع مدى. لكن هذا الخطاب السياسي القومي الذي كان مقدّمة لعصر جديد،وحياة جديدة، وأفق جديد، راح في القرن العشرين ينغلق على ذاته بشكلٍ مريب، ويكتسب صفات استعلائية على الآخرين، وانتشرت العنصرية النازية والفاشية واليمين الشعبوي المتطرف كالنار في الهشيم، دفعت بأوروبا إلى حربين عالميتين دموميتين، خلال ربع قرن، وفي مقابل هذا الخطاب القومي التعصبي، كان الخطاب الأممي، الذي يبدو أكثر انفتاحاً مِن غيره، ومَحمولاً على إيديولوجيا تبشّر بالمساواةِ والعدالةِ، وتحقيق حقوق الإنسان، من خلال فرض القوانين والتشريعات الناظمة لذلك. كما بشَّر الخطاب الأممي بعالم تزول منه الفوارق الطبقية، وتسود العلاقات الإنسانية على جميع القضايا الطائفية والمذهبية والعرقية، وهذا الخطاب يتحوّل مع الوقت إلى رأسمالية الدولة التي تملك المال والسلطة بدلاً من رأسمالية السوق، وإلى اشتراكية الحاجة والفقر، بدلاً من التمتّع المتساوي بالثروات والإمكانيات، وإلى نموذج حكم متشدِّد ومتصلّب، عدا عن الممارسات القمعية غير الإنسانية التي أودت بحياة ملايين البشر في الدول التي حكمتها أحزاب أممية طيلة سبعة عقود.
في هذا الإطار نشأت العديد من الأسئلة الملحّة حول يمكن وضع حدود عقلانية للخطاب السياسي وضبطه، وكيف يمكن مقاربته مع الأفضل، وما البديل عن الخطاب السياسي السائد ؟
الإشكالية الكُبرى لحظة الإجابة عن هذه الأسئلة المتوالية، تكمن في العلاقة البنيوية بين السياسة كعلم قائم بحد ذاته والخطاب السياسي المُتَّبع، فالعلوم السياسيّة التي تعتبر إحدى فروع العلوم الاجتماعية تدرس نظرية السياسة وتطبيقاتها العملية والنظرية، وتقوم بوصف وتحليل النظم السياسية وسلوكها السياسي، وأثرها على الفرد والمجتمع. هذه الدراسات تكون في الغالب ذات طابع أكاديمي التوجّه، بحثي ونظري. وهي تتضمن علم الاقتصاد السياسي، وعلم السياسة المقارن، والنظرية السياسية أو الفلسفة السياسية، والمنهجية السياسية، والإدارة العامة، والسياسة العامة، والعلاقات الدولية. إضافة إلى الأنظمة القومية، والتطور السياسي، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والتاريخ، والجغرافيا، وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، وتاريخ الفكر السياسي، وقضايا المدنيات، والقانون الدولي، والحريات العامة وحقوق الإنسان .
في حقيقة الأمر هناك عقبة في تجاوز الإشكاليات التي تمر بشكلٍ من الأشكال بالاعتراف بها أولاً، أي نزع القداسة عن الخطاب السياسي، لكن تجاوز هذه الإِشكالية يمر بشكل من الأشكال بالاعتراف بها أولاً، أي نزع القداسة عن الخطاب السياسي وتوجّهه، وجعل نقدَهُ ممكناً وغير ممنوع، بل وواجباً تُمليه المسؤولية، وذلك لمنعِهِ من صناعة رموز وأيقونات، وشخصنة قادة، والبقاء في الواقع المعاش والتاريخ وسيرورته، أي في نطاق الممكن والاحتمالي معاً، وهما عنصران متغيّران ومتبدلان باستمرار، وهذا بالضبط ما يعطي العمل أهميتهُ ودورَه الريادي، ويُعيدُ الاعتبارَ لعالم الإنتاج من جديدعلى حساب عالم اليوتوبيا، واعتبار صناعة قوّة قِيَم ومُثل سامية مسألةً راهنةً أبداً، وليست فكرةً سابحةً في فضاءٍ واسع مجرّد .فالقِيَم تتكوّن من (المكوّن المعرفي) و(المكون الوجداني)، و( المكوّن السلوكي) ومصادره الأساسية (الدين) من خلال الشرائع السماوية، و(العقل) الذي يملك القدرة على التحليل، و( المجتمع) الذي يبحث عن قِيَم تُناسِبَهُ.
إنَّ مراجعةً نقديةً لقرنٍ كامل مرّ به وطننا العربي، وللخطابات السياسيّة التي سادت فيه، كفيلة بأن ندرك مدى فداحة الكارثة الموجودة في الواقع العربي، ففي الوقت الذي كانت فيه المؤسسة بكافة تشكيلاتها (حكومة، حزب، جماعة) تُعلي من شأن الخطاب السياسي العربي،الذي رفع شعارات غير ممكنة التحقق ضمن ظروف الوطن العربي في تلك الفترات وما تلاها . كانت في الوقت ذاته تقدّم قوة مُثل وقيم سامية متناقضة تماماً مع ما يتضمنه الخطاب السياسي العربي من أفكار مستقاة من الخارج ويراد تطبيقها في حياتنا العربية.