ما زال العقل العربي يترنّح بين الواقعية والخيال. وما زالت أمتنا العربية تدور حول نفسها دون أن تعي إلى أين المصير . فنحن العرب نهرع دوماً لعقد الندوات والمؤتمرات ويتم خلالها التداول بعبارات التمجيد والبطولة والعطاء ، ترافقها عبارات الشجب والاستنكار والتهديد والوعيد للآخر في المكان والزمان المناسبين، ففي مؤتمرات القمم العربية التي يصاغ بيانها الختامي قبل انعقادها بأسبوع تكون التوصيات غير قابلة للصرف والتحقيق ، وتبقى مجرّد حبر على ورق، وما يوصى به في تلك المؤتمرات والندوات العربية في النطاق القومي العربي سواء تعلق بأوضاع اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو تربوية يعاني مرضاً ووهناً مزمناً أقعده دون حراك ، هو باختصار القطيعة الأبستمولوجية، أو الطلاق البائن بين ما يُقال وما يُعلَن وما يُمارَس، وكأنّ الحراك الموسمي الذي يسير وفق أجندات مرسوم جزء كبير منها خارج الوطن العربي مترافقة مع أبواق الإعلام الصاخبة حول قضايا ذات صلة بتنمية المواطن العربي مجرّد طقوس وحركات مزركشة لا تعيش أكثر من يوم أو يومين أو ثلاثة أيام على أبعد حد . ومن ثم تعود طاحونة الحياة بالدوران من جديد .وكأنّ شيئاً لم يكن . لأنّ الخطاب استند إلى دماثة الوقاحة، وخرج من رفعة الأخلاق، وطرح عناوين يسهل كسرها وهدرها على قارعة الكلام .
عالمنا العربي لا يعاني قلة المفكرين وشحة الأفكار، بل هناك فائض من المفكرين وكبار المثقفين سواء على المستوى الأكاديمي النظري أو على المستوى الواقعي الميداني، وما يعانيه هؤلاء هو الاستخفاف والتقليل من أهميتهم ،وأهمية ما يطرحونه من أفكار ، أو التعامل معها باستهزاء، كما لو أنها (فانتازيا) معرفية وثقافية، ما دام الواقع العربي البائس قد شُطر إلى أقوالٍ دون أفعال ، وأفعال مغايرة لما يُقال ، دون أن يكون بينهما أية تفاعل أو جدلية أو تحكيم عقلاني. وحين نعود لمراجعة عشرات المؤتمرات والندوات الفكرية التي عُقدَت في معظم عواصمنا العربية ، نجد أنّ هناك شيء هام يستحق التوقف عنده والاهتمام به .وأنّ ما يُقال ليس مجرد توصيف أو عابر لا أهمية له. لكن الفكرة المتداولة والسائدة لأسبابٍ معروفة لنا جميعاً حول مجانية الكلام الذي يُلقى على عواهنه وسهولته يحول دون التعامل الجدّي مع كل ما ينتمي إلى دائرة القول الملتزم . لذا فإنك تسمع هنا وهناك شعارات طنانة، ووعود تذهب أدراج الرياح حالما ينتهي المهرجان . لهذا لم يكن المَثَل القائل (إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب) مجرّد عبارة أو مقولة يتوارثها الناس بمعزلٍ عن دلالاتها ومقاصدها. فالكلام أحياناً من ذَهَبٍ وماس إذا كان في مكانه ؟ وإذا كان ضرورياً لنقد ظاهرة ما أو ممارساتٍ أو تجاوزاتٍ تفتقر إلى الحصافة والعقلانية. أما الصمت إذا كان هروباً من المواجهة فهو تواطؤ وليس من ذَهَب أو حتى نحاس ! . إن الحلقة المفقودة بين النخب الفكرية والثقافية وسائر البشر قد تكون أحد أسباب القطيعة والطلاق بين الفكر والعمل ، لأن الأفكار لا يمكن أن تُسمَع دون إعلان ودون انتشار وإشهار ، ولابدّ من توفر الوسيط الذي يتولى إيصالها إلى المتلقي . حتى مراكز الأبحاث والدراسات على وفرتها وبريق أسمائها تبقى معزولة خلف أسرارها إذا لم يترجّل الباحثون والمفكرون إلى الأرض، ويعفِّرون أحذيتهم بغبار الواقع، وحين يقتصر دور تلك المراكز على إصدار التقارير أو الدراسات أو الاحصاءات فهي سوف تجف وتذوي في أبراجها العاجية. وتخلد لسكونها . ومن يرصد خلال عام واحد فقط ما أوصت به مؤتمرات وندوات فكرية وثقافية في أكثر من عاصمة عربية، يُصاب بالدهشة . أنّ ما قيل وما تم بحثه في تلك الندوات انتهى إلى ملفاتٍ يغطيها الغبار، وظلمة الأدراج المغلقة، كأن هؤلاء الذين بُحّت أصواتهم لم يُسمِعوا حَيّاً. ( فلا حياة لمن تنادي)
أما إلقاء العبء والإدانة بالتقصير على النخب الفكرية والثقافية فقط فهو بمثابة تبرئة الذات، وهروب صريح وفاضح من المسؤولية، ولا ندري كم ستستمر تلك المعادلات العرجاء.