شهدت العديد من بلداننا العربية حراكاً شعبياً واسعاً، تناوب بين الحراك السياسي والاجتماعي، كما شهد ثوراتٍ وثوراتٍ مضادّة، وتغييراتٍ جذريةٍ في البنية العامة للدولة، كل ذلك دفع المواطن العربي في تلك الدول التي شهدت سخونة شعبية غير معهودة، إلى طرح العديد من التساؤلات بشكلٍ متكرِّر،دارت حول دور المثقف العربي من كل ما يجري حوله ؟. وأين هو مما يجري ؟. وما هو دوره في المجتمع؟. وما هي إسهاماته الحقيقية في كل ما يجري ؟.
لم تتوقف التساؤلات عند هذا الحدّ، بل نتيجةً لِسُخونَةِ الأحداث وقساوَتها في الكثيرِ مِنَ الأحيانِ دفَع المواطن العربي للتساؤل، حول هل من المفترض أن يكون المثقف هو المحرِّك الرئيسي لهذه التحولات، وتلك التغيرات، بمعنى آخر إنَّ على المثقف أن يكون هو الفاعل الحقيقي وله دورٌ كبيرٌ وليسَ أن يكونَ متفرِّجاً ؟ وأين هو المثقف العضوي القائد كما أخبرنا عنه أنطونيوغرامشي؟ وأين هو المثقف العضوي الآن ؟ تساؤلات عديدة ملحّة تم طرحُها في فترةِ تلك الثوراتِ العارمة، والحراكات الشعبية العامّة، في العديد من بلداننا العربية، حول علاقة المثقف مما يجري بمحيطه ومجتمعه، وما هي علاقته بالسلطة الحاكمة وبصنّاع القرار فيها .
لم تتوقف تلك التساؤلات عن فرض نفسها على الرغم من أنَّ مجتمعاتِ النُخبةِ العربية (الأنتلجنسيا) لم تَعِش حالةَ انكشافٍ حقيقي، وتعرٍّ قيَمي أخلاقي. لكنَّ الحالات التي عاشها الشعب العربي عقب إحدى أكبر وأقوى ثورات العرب إبهاراً للعام، كونها انتهجت المسلك المدني السلمي، ورفعت شعاراتٍ واضحةً تطالبُ من خلالها بالحرِّية والكرامة والديمقراطية. وتغيير الأنظمة القمعية الاستبدادية. إنَّ حالة الإنكشاف العربي التي تجلَّت بكامل صورها، كتجليها في حالة المثقف العربي الذي عاش على رتابةٍ محدّدة لم يكن يتوقّع مطلقاً ما حدث ويحدث في بلداننا العربية، وما يدور أمامه من أحداث دراماتيكية ومشاهد لم تكن مألوفة في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر، ولم تكن في حسبانه، من هنا كان مرتبكاً في موقفه، ولم تستطع نرجسيته المفرطة تقبّلها، باعتبارها خارج نطاق حساباته وتوقعاته الذاتية أو المؤدلجة. هذا الرأي لا يخص جميع المثقفين، لأنّ بالتأكيد هناك مثقفون جسَّدوا حالةً نضاليةً مميَّزة ومفارَِقة قابضين على جمرة نار العملاق الذي حارب في صف الآلهة ضد العمالقة مثل (برومثيوس) اليوناني، فكانوا مثقفين طليعيين. بهرتهم قوة وعبقرية هذا الجيل العربي الذي لم يستكين لواقعه المعاش، والذي تم تحويله إلى عالَم افتراضي. فيما بقوا هم حبيسي جدران وأدراج اليوتوبيا الافتراضية لعشرات السنين. لقد مثَّلت الحراكات الشعبية العربية العارمة، والثورات ضد النظم المستبدة الطاغية، واحدة من اللحظات التاريخية العربية الفارقة، التي أعادت إلى الأذهان مفهوم المثقف ودوره. فقد تنوّع دور المثقف في السنوات الماضية حيث لاحظنا أنَّ العديد من المثقفين قد انحازوا وراء الظلم والقهر والاستبداد والطغاة، وهنا نجد أنَّ عدداً من المثقفين نظَّروا للسلطة الحاكمة الفاسدة وساندوها، وهناك عدد آخر من المثقفين اختفوا تماماً عندما بدأ الحراك الشعبي وانفجرت الثورات في بلداننا العربية. كما لا حظنا أنَّ قلّةً قليلةً من المثقفين ناضَلت بالقلم، من أجل مساندة الفقراء والمحرومين والمهمشين والمساكين.
من الواضح تماماً أنً إشكالية أزمة المثقف العربي تبقى من الإشكاليات الرئيسية والهامة في حياتنا العربية، المطروحة على الساحة الثقافية والفكرية والسياسية في وطننا العربي. وذلك من أجل معرفة المكانة الحقيقية للمثقف في مجتمع يفتقر إلى أهم مستلزمات التعبير عن الرأي والرأي الآخر، والتفكير الحر، والبحث في الحريات الفردية، وحرية الصحافة وانتشارها، وغيرها من ضرورات ومستلزمات وشروط الانتاج الفكري الفاعل والناضج الذي يستطيع أن يؤسِّس وينظِّر للتحولات والتطورات المصيرية والهامة في المجتمع العربي .
لقد أثبتت التجارب التاريخية في وطننا العربي، إلى وجود حالة خاصّة من القهرِ نتيجةَ التهميش والاغتراب والإقصاء الذي عانى وما زال يعاني منه المثقف العربي، عبر سيرورة تاريخية عربية، وعبر الأجيال والعصور. ففقدان أهم عناصر الحياة الإنسانية ألا وهي الحرية والديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان المستمر، كلها عوامل خطيرة أدّت إلى اغتراب المثقف العربي وإقصائه وتهميشه، سواء داخل وطنه أو بين أهله، حيث أصبح من الغرباء فيه لا يتعرف عليه أحد. ليس هذا فحسب بل لم يعد يجد من يتفاعل معه كما ينبغي ،لأنّه سيتعرَّض لمواقف صعبة غير محسوبة من النظام السياسي القائم المستند على الاستبداد ويمارس القمع ضد كل من يعارضه،أو إننا نجد المثقف قد لجأ إلى بلدان أخرى طالباً للحرية كي يتمكن من القيام بواجبه على أكمل وجه دون أية ضغوط أو عوائق. حيث يجد المجال واسعاً في بلاد المهجر للإبداع والتفكير. مع علمنا المسبق أنَّ الحياة في بلاد المهجر والعيش مغترباً خارج المحيط الاجتماعي والسياسي الطبيعي للمثقف، يعتبر بمثابة موت بطيئ له. ومع كل تلك العراقيل والصعاب التي يتعرّض لها يبقى دائماً مسؤولاً إزاء مجتمعه وطموحات شعبه وآمالهم من أجل تحقيق الأهداف السامية التي يناضل من اتجلها، وهي دون أدنى شك الحرّية والمساواة والعدالة والقيم الإنسانية النبيلة. ومن أهمها توفير الظروف الملائمة للبحث العلمي وترسيخ مفاهيم التعلم والإبداع بكافة أشكاله. كل ذلك لأنّ الثقافة تعكس مدى الحالة والأزمات التي تعيشها منظومة الثقافة العربية، باعتبار أنّ الثقافة العربية هي نتاج المجتمع العربي وليس المجتمع نتاج لها. وليس نتاج مجتمعات آخرى. وكان الفيلسوف الألماني كارل ماركس قد أكّد على ذلك. لأنّه لا يمكن لأيِّ مجتمع غارق في أزماتٍ حادَّة لا حَصرَ لها ، أن يُنتِج تعريفاتٍ وتوصيفاتٍ دقيقة للمعاني والأشياء. بخاصةٍ وأنَّ قطاع كبير من شعبنا العربي ينظر إلى المثقف على أنّه الشخص الذي يمتلك ذاكرة حديدية، وقدرة فائقة على الحفظ والتكرار لكل ما يسمع ويقرأ . ليس هذا فحسب بل هناك صورة نمطية عالقة في أذهان الكثيرين والتي أصبحت مطبوعة في دواخلهم وعقولهم ممن يعتبرون أنفسهم مثقفين لاعتقادهم أنهم قرأوا بعض الكتب، وواظبوا على قراءة بعض المقالات في الصحف والمجلات وما وصلوا إليه من مكانة وظيفية حسب تحصيلهم العلمي. لكن حاملي تلك الشهادات لا يعتبرون مثقفين بالضرورة، بقدر ما تجعلهم مصابون بحالة (التعالم) كما أطلق عليها المفكر الجزائري مالك بن نبي أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين. كما ينتشر في وطننا العربي أعداد هائلة من المتثاقفين والمتفيقهين والمتعالمين والذين أصبحوا رويبضة .
إنَّ تعدّد الإشكاليات التي يعاني منها المثقف جعلتنا نقف عند بعضها، بخاصة تلك التي تقع ضمن سياق ظاهرة الاغتراب التي يعاني منها المثقف. تلك الإشكالية تتمثَّل في حالة الرقابة الذاتية، وممارسة الإنسلاخ الإرادي من المجتمع العربي، والعيش على هوامشه وضفافه. ولحائه بعيداً عن نسغه. وهذا بالتأكيد موتٌ بطيئٌ يتصف بالقسوة والمرارة. وهو نوع من الانتحار اللا إرادي الصامت، حيث لا يجرؤ على التعبير صراحةً عما في عقله ودواخله. ولا يستطيع نتيجةَ ذلك من أنْ يضَعَ أفكارَهُ ومفاهيمَهُ في خدمة المجتمع. وهذا ما سيقوده في نهاية الامر إلى التقرّب من السلطةِ الحاكمةِ مهما كان توصيفها، وينسلخ عن الشعب، أو التقرّب من الجماهير والواقع، وهذا يعني دون أدنى شك غضب السلطة الحاكمة على المثقف وإسكاته أو إقصائه، وتهميشه بشتى الطرق. وفي كلّ هذا يكون مجتمعنا العربي هو الخاسر الأكبر في نهاية المطاف. وهذا ما يدفعنا إلى أن نقف عند علاقة المثقف بالسلطة الحاكمة، والتي هي بلا ريب علاقة خضوع واستسلام وتملّق وخنوع. وغير مبنية على المهنية والصراحة والاحترافية والديمقراطية والشفافية، والنقد والنقد الذاتي، والاحترام. من أجل مصلحة بلده ومجتمعه ومكوناته المتنوعة .
إنَّ الحديثَ يطولُ عن علاقةِ المثقف بالسلطةِ الحاكمة، لأنَّها بقيت من القضايا العالقة، وبقيت على حالها دون تغيير، على الرغم من المطالبة الدائمة بتجسير الفجوة بين الطرفين، فقد كانت المحاولات قليلة جداً التي تم تسجيلها في هذا الاتجاه، وللأسف الشديد كانت من قِبَل المثقفين أنفسهم الذين هرعوا باتجاه السلطة. هذا الأمر بحدِّ ذاتِهِ يدعو للحُزنِ والتحسّر والتشاؤم على واقعٍ سلبيٍّ للغايةِ في عصر الانفجار المعرفي وثورة المعلومات والاتصالات، وعصر العولمة. فالمثقف في تلك الظروف وتلك الحالات يبقى أسير ذاته، يعمل بكلِّ ما بوسعه من أجل إرضاء السلطة الحاكمة والتنظير لها، وغضّ النظر عن سلوكها القمعي الاستبدادي، ويعمل على تبرير كافة أعمالها السلبية في حق الشعب والوطن. هذه النوعية من المثقفين أطلق عليهم علماء الاجتماع والفلسفة بــ ( أشباه المثقفين). وإذا انتشرت في مجتمعنا العربي هذه المجموعة فإنها تنشر ثقافة الرضوخ والاستسلام، وثقافة التملّق، والقضاء على ركائز وبذور الديمقراطية من جذورها. لأنَّ الديمقراطية في جوهرها تقوم على الاختلاف في الرأي والمعارضة، ولا رأي حقيقي دون فكرٍ حرّ. ولا استقلالية في الفكر الحرّ بدون حريّة واسعة الطيف، وبدون مبادئ، فلا مستقبل لأمةٍ بدون مفكرين ومثقفين أحرار، ينتقدون الفساد والباطل. ويدافعون بقوةٍ عن الحق، ويعملون دون كللٍ من أجل إنصاف الفقراء والمحرومين والمحتاجين والمهمشين، بعيداً عن نزوات السلطة الحاكمة وشهواتها .