مع تطوّر التكنولوجيا الرقمية عملت العديد من المؤسسات والحكومات والدول إلى تنظيم عملها الإداري من خلال الحوكمة او الحكامة أو الحاكمية. (governance) وهي وسيلة باتت هامة وضرورية في عصرنا الحالي، هذه العملية تهدف إلى تدعيم مراقبة نشاط المؤسسة أو الحكومة أو الدولة ومتابعة مستوى أداء القائمين عليها بدقةٍ متناهية، والحوكمة بشكلٍ عام هي النشاط الذي تقوم به الإدارة. وتتعلق بالقرارات الصادرة عن الإدارة وملحقاتها التي تحدِّد التوقعات، أو منح السلطة صلاحيات، أو التحقق من الأداء. وهي تتألف إما من عملية منفصلة لوحدها، أو من جزء محدّد مسبقاً من عمليات القيادة أو الإدارة. وفي بعض الأحيان تشكّل مجموعة من الناس حكومة لإدارة هذه النظم والعمليات .
مؤخراً أعلن الاتحاد الأوروبي ومجموعة دول السبع الكبار، والولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة مجموعة مبادرت تم اعتبارها مبادرات هامة وضرورية، تهدف إلى إنشاء أنظمة حوكمة، وإرشادات وتوجيهات حول استخدام التكنولوجيا المتقدمة .ووسط هذه الجهود التي استمرت طويلاً، كشف الاجتماع الوزاري الرابع لمجلس التجارة والتكنولوجيا في مملكة السويد عن ما أطلق عليه : (مدوّنة قواعد السلوك الخاصة بالذكاء الاصطناعي) بين الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما يمثل الخطوة الأولى والركيزة الأساسية، عبر المحيط الأطلسي لحوكمة الذكاء الاصطناعي عالمياً.
وتم طرح مدوّنة قواعد السلوك الخاصة بالذكاء الاصطناعي كمبادرة مشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لإعداد مسودّة مجموعة من الالتزامات الطوعية للشركات هناك لتبنيها. والهدف من ذلك ردم الهوة بين مختلف السلطات القضائية والتشريعية المنتشرة، وتطوير مجموعة واسعة من المعايير والمقاييس الدولية غير الملزمة لقطاعات الأعمال التي تطور برامج وأنظمة الذكاء الاصطناعي قبل إصدار التشريعات والقوانين في أي بلد من البلدان.
هذه المبادرة من المتوقع لها أن تتجاوز حدود الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي لتشمل دولاً عديدة أخرى، بما في ذلك الهند وإندونيسيا، ويجري طرحها للمناقشة والتداول في نهاية المطاف أمام مجموعة دول السبع الكبار. لكن، في هذا الوقت الذي نعيشه، لا تزال الاستفسارات والتساؤلات محيطة بنطاق عمل ومنهج وأهداف مدونة السلوك، وما إذا كانت ستتضمن تلك المدونة آليات تنفيذ أو مراقبة .
الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي كانوا لفترةٍ طويلةٍ بسعون من أجل طرح اقتراح مبادرات مشتركة في قطاع التكنولوجيا الرقمية(Digital technologies) بشكلٍ عام، وذلك بسبب اختلاف القواعد التنظيمية والإدارية بينهما، ولا يزال هذا الأمر واقعاً حتى اليوم. فغالباً ما تعتمد الولايات المتحدة الأمريكية على العلاجات القانونية الموجودة مسبقاً والتي كانت قد وُضِعَت بإحكام لتحقيق مصالحها الخاصة بها، لتحفيز مطوري التكنولوجيا الرقمية (Digital technologies) على إنشاء منتجات آمنة. وتفضل اتباع النهج المسمى (عمودي خفيف) لتنظيم الذكاء الاصطناعي (artificial intelligence)، ونشر جهود إدارة مخاطر خاصة بالقطاع تسعى جاهدةً إلى تحقيق التوازن بين الابتكار والاختراع والتنظيم، دون إلزام بقانون حقوق الذكاء الاصطناعي المنصوص عليها .وهوانعكاسٌ لنهج إدارة الرئيس الأمريكي جوبايدن في تزويد الوكالات الفيدرالية بالمبادئ التوجيهية التنظيمية، والأدوات اللازمة والضرورية، دون فرض متطلبات تنظيمية محدّدة أو معيّنة مسبقاً. وبينما هناك زخم متجدِّد في الكونغرس الأمريكي بمجلسية النواب والشيوخ لتنظيم أدوات الذكاء الاصطناعي، لم يتم النظر في أي إجراءات أو تدابير تنظيمية شاملة حتى هذه اللحظة .
هذا الموقف القانوني الأمريكي الخاص بالذكاء الاصطناعي دفع الاتحاد الأوروبي لاتخاذ نهجاً آخر، تمت تسميته بــ (النهج الأفقي الشامل) لتنظيم الذكاء الاصطناعي في إطار قانوني خاص بدول الاتحاد الأوروبي، يهدف إلى بناء حواجز وجدارحماية متين بشأن تطوير أنظمته التي لا يمكن اختراقها بسهولة، وتغطية نطاق المخاطر المحتملة بأكملها، باستخدام أربعة مستويات واسعة من المخاطر الأليكترونية، لتصنيف جميع أنظمة الذكاء الاصطناعي، من الحدّ الأدنى إلى الحد غير المقبول من قِبَل دول الاتحاد الاوروبي. لذا فقد تم التصويت على قانون الذكاء الاصطناعي من خلال البرلمان الأوروبي يوم 14 حزيران الماضي 2023 م ، وهو الآن في طريقه للحصول على إجماع ثلاثي، حيث سيقوم البرلمان نفسه والمفوضية الأوروبية ومجلس الاتحاد الأوروبي بسنّ تشريع نهائي بعد الاتفاق على كامل بنوده، ودون العودة لأي مناقشات سبقت القرارات، ومن المحتمل أن يبدأ تطبيقه بشكل عملي عام 2025.
وبالنظر إلى التشريعات والقوانين الناظمة التي تمّ تبنيها بين الطرفين، يتضح جلياً صعوبة التوفيق بين الأساليب والمناهج المتبعة لكليهما. وهنا يأتي دور (مدونة قواعد السلوك الخاصة بالذكاء الاصطناعي) بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، التي من المتوقع أن تعمل على إزالة الخلافات والعقبات والحواجز، وتعزيز الجهود بشكلٍ كبير في المجالات ذات الإجماع العام، والاهتمام المشترك.
بعد كل تلك التجاذبات والتنابذات بين الطرفين نجد أنّ الاتفاق على أهمية الذكاء الاصطناعي الموثوق هو ترسيم لقيم الديمقراطية المشتركة وهي خطوة هامة على الرغم من وجود نهج قائم على المخاطر يؤكد أهمية تطوير معايير دولية معترفٌ بها، لحوكمة ذلك عالمياً، دون التعدّي على الأطر والسياقات التنظيمية الخاصة بكل طرف من الأطراف.
وبالمثل أيضاً، يوفر هذا السياق وهذا النهج التطوعي دليلاً واضحاً على مفهوم العمل تحت مظلة القوانين التنظيمية المتباينة بين الأطراف، والتي ستكون بالغة الأهمية بشكلٍ خاص في المنتديات الدولية متعددة الأطراف. كما يوفر أيضاً مساحةً واسعةً ومهمة جداً للقطاع الخاص، حيث يتم تطوير الغالبية العظمى من أنظمة الذكاء الاصطناعي الأكثر قدرة وكفاءة.
ووفقاً لذلك، اتخذ كل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي مؤخراً خطوات حثيثة ومتسارعة للتعاون الوثيق مع القطاع الخاص. منها على سبيل المثال حصول البيت الأبيض الأمريكي على ضمانات طوعية من سبع شركات رائدة وفائقة القدرة في مجال الذكاء الاصطناعي تخص التطوير الآمن والشفاف للتكنولوجيا الرقمية.
وفي شهر أيار الماضي 2023 م ، أعلن تييري بريتون المفوض الحالي للسوق الداخلية في الاتحاد الأوروبي ، أنّ الاتحاد سوف يطوّر ميثاقاً للذكاء الاصطناعي بالتعاون مع شركة (ألفابيت)، الشركة الأم لــ (غوغل)، من شأنه وضع قواعد وأسس غير ملزمة مع الشركات التي تعمل على تقدم وتطور أنظمة الذكاء الاصطناعي.وهذا يتيح المجال واسعاً لكلٍ من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي من خلال : (مدونة قواعد السلوك الخاصة بالذكاء الاصطناعي) والاستمرار في التعامل مع دور القطاع الخاص الذي يلعب دوراً اقتصادياً هاماً ، وتحديد الحجم المناسب له أثناء قيامهما ببناء نهج عبر المحيط الأطلسي لحوكمة الذكاء الاصطناعي عالمياً. فقد تركت المدونة من خلال نهجها الباب مفتوحاً لمجموعة كبيرة وواسعة من الشركاء والحلفاء للإنضمام إلى هذه الجهود الكبيرة .