
ما زالت جملة الأحداث المتراكمة تتعاقب وتتداخل مع بعضها البعض ولا يعرف يقيناً أسباب سقوط ثقافة التعايش الإنساني والاجتماعي في مسارها الطويل، بهذا القدر الهائل من العنجهية والهمجية واللامبالاة والعبث بالقانون الدولي. وليس هناك أسوأ من أن يفقد الانسان جزء كبير من إنسانيته حقوقه المقررة له بشرعة وقوانين أبسط حقوق الإنسان الدولية في مقدمتها، حقه في الحياة الآمنة الكريمة، وحقه في العمل والانتاج، وحقه في الصحة والتعليم وحقه في العيش الكريم الآمن.
فقد شهد العالم تغيرات جوهرية في سياسات الدول الاقتصادية والأمنية والعسكرية وانعكاسها على البنى الاجتماعية والإنسانية، فقد انقلب المشهد العالمي وشهد ظهور نظام التكتلات والأحلاف المتناقضة والمتعارضة ،نتيجة طغيان منتجات الحداثة ذات الأصول والجذور التي أفرزت الليبرالية بكل تفاصيلها التي تأسست على مبدأ الحرية والمساواة ومنها الليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاجتماعية التي تدعم العديد من الأفكار مثل حرية التعبير، وحرية الصحافة، والحقوق المدنية، والحرية الدينة، ومبدأ الأممية، والحكومات العلمانية، والحقوق المدنية، والسوق الحر، وجميعها تؤكّد أنه من الأفضل خلق فرد متميّز وليس فرداً متحيِّزاً متخلفاً وقلقاً، مصيره الذي ينتظر ألا يخرج عن الفقر والحاجة أو التشرد أو الضياع وفقدان البوصلة، يعيش في عالمٍ قاسٍ وفاتر، يتم فيه تجاهل وتهميش كل ما هو ليس له دليل موضوعي، من خلال إحداث خلل اجتماعي واضطرابات تفقده الأمان الوجودي والاستقرار والأمن والأمان، على الجانب الآخر تشهد قيم احترام الآخر والتعايش انحساراً إلى درجة التلاشي والانعدام. فالتعايش يكون بين أهل الملّة الواحدة ،والتعايش بين أهل الملة المختلفة، والتعايش بين الدول المختلفة سياسياً، وكذلك التعايش بين القوى الاجتماعية المختلفة، كون التعايش قبول رأي وسلوك الآخر على مبدا التناقض والاختلاف وعدم التوافق، واحترام حرية الآخر وطرائق تفكيره ومنهجه الحياتي، وسلوكه وآرائه وأفكاره السياسية والدينية، والقبول بالخصوصيات التاريخية والحضارية للأمم والشعوب والجماعات المختلفة من أجل تأسيس تعايش إنساني واجتماعي وحضاري قائم على الاحترام المتبادل، وهو بهذا يتعارض مع مفهوم القمع والتسلط والأحادية والعنف والقهر.
ومن أكثر الشعوب التي ابتليت بتلك المصائب وحالات القهر الشعب الأفغاني والعديد الشعوب العربية الذين الذين دفعوا، منذ ثمانينات القرن الماضي، ثمن الصدامات الدولية التي استخدمت في تلك البلاده لتكون مسرحاً لتلك الصدامات الدامية، بخاصة وأنّ الشعب العربي العراقي قد دفع ثمناً كبيراً وباهظاً مماثلاً لما حصل في أفغانستان، بسبب سياسات الغرب الأمريكي التي لم تحسب حساباً للعواقب التي قد تقع من جراء سياساتها المراوغة، ومع ظهور الفوضى التي فرضت في بعض الدول العربية بسبب المشاريع الدولية المتضاربة والمتناقضة والتي فيها استغلال للخيرات والثروات والطاقات للشعوب المضطهدة، فقد زاد عدد البؤساء والفقراء والمحتاجين إلى العمل والرعاية الصحية والاجتماعية، وكان مشهد البشر المجتمعين في تركيا، من دول شرق أوسطية عديدة، وهم بمئات الألوف من المهاجرين واللاجئين قاصدين أوروبا، تعبيراً واضحاً عن تلك الظروف الصعبة والمآسي الآخذة في التعاظم يوماً بعد يوم، والتي قد تتحوَّل إلى وحش هائل وكاسر يبتلع كل منجزات الحضارة الإنسانية.
وعلى الرغم من أن بعض دول أوروبا قد استوعبت،وقتذاك، أولئك اللاجئين والمهاجرين الذين وصل عددهم ما يقرب مئات الآلاف من اللاجئين أو بضع ملايين منهم ، فقد استقبلت ألمانيا وحدها في العام 2015 نحو مليون لاجئ من سورية وحدها، لكن ظهور أزمة لجوء جديدة في أوكرانيا،وهي أزمة حادّة جداً، أدّت إلى اندفاع عدة ملايين من الشعب الأوكراني نحو القارة الأوروبية، منذ مطلع العام الجاري 2023 م ، ودخول أوروبا في أزمات اقتصادية حادّة وغير مسبوقة بسبب أزمة جائحة كوفيد 19(كورونا)، ومن ثم العقوبات الغربية الأوروبية ـ الأمريكية ضد روسيا الاتحادية، حيث بات الكثير من دول أوروبا يئن من وطأة الأعباء الاقتصادية وانعكاس السياسات العالمية المستجدة، وانسداد أفق الحل السياسي والأمني في ظل تصلّب المواقف المتبادلة بين دول الغرب وروسيا الاتحادية .
وقد وجدت بعض الدول الأوروبية أن تدفق اللاجئين إليها من مناطق الشرق الأوسط وإفريقيا، رغماً عن إرادتها، يشكل عبئاً ثقيلاً عليها لا يمكنها احتماله على الرغم من امكانياتها الاقتصادية الكبيرة، ومؤخراً أعلنت المملكة المتحدة أنها ستقوم بترحيل كل من يدخل إليها خلسة أي بطريقة غير شرعية، إلى جمهورية راوندا في إفريقيا وهي دولة غير ساحلية تقع في الوادي المتصدع الكبير (الأخدود الأفريقي العظيم). وتفتقر جمهورية راوندا إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة وتنتشر فيها العنف والجريمة، بسبب الحرب الأهلية الدموية (1993 ـ 1990) أو ما يُعرف بالحرب القبلية بين التوتسي والهوتو. التي لم تخمد نيرانها فيها حتى الآن.
ومما لا شك فيه أنه من حق أيّة دولة أن تتخذ السياسات التي تساهم في تماسكها وتراها مناسبة لحمايتها وحماية شعبها ومقدراتها وتكوينها، لكن الموقف البريطاني يكشف عن حجم الضغوط الهائلة التي تعانيها تلك الدولة، بسبب قلّة الموارد والثروات وكثرة النفقات المالية، غير متناسين أن بريطانيا قد غادرت الوحدة الأوروبية البريكست (Brexit) الذي جرى في 23 حزيران 2016 م، حيث صوّت 51،9% لصالح الانسحاب، لأنها تريد منع تدفق المهاجرين واللاجئين من أوروبا الشرقية إليها. ويومياً يقضي عشرات المهاجرين غير الشرعيين غرقاً في قوارب الموت في عرض البحر الأبيض المتوسط، وهم يتلهفون للوصول إلى السواحل الأوروبية، ومع ذلك ما تزال تلك القوارب مستمرة في العمل، على الرغم المخاطر الهائلة المحدقة، بسبب كثرة من يريدون اللجوء والتخلص من حياة القهر والفقر والبؤس والحرمان، وخصوصاً من الدول الإفريقية التي ضربتها الفوضى والجوع والحرمان. وكانت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة United Nations High Commissioner for Refugees)) (UNHCR) قد ذكرت، أنً هناك ما لا يقل عن 103 مليون لاجئ حول العالم خرجوا من بلادهم فارين من الحروب وظروف الحياة الصعبة والقاهرة، والذين هم بحاجة لمساعدات عاجلة تقترب من 10 مليارات دولار. وهذا الرقم آخذ بالازدياد يوماً بعد يوم، مع استمرار حالة التحشيد بين القوى العظمى المتنازعة في أنحاء العالم، فهناك اليوم مخاوف حقيقية من وقوع حرب عالمية عظمى يكون السلاح النووي هو الحاسم بين الغرب الأوروبي ـ الأمريكي من جهة، وروسيا الاتحادية والصين من جهة أخرى، فقد تشتعل جبهة تايوان في أية لحظة، كون العمل يجري على قدمٍ وساق لتسخينها، وقد يفجِّر ذلك الحدث الرهيب المخاوف من حصول أزمة لجوء ونزوح هائلة جداً في حال قررت الولايات المتحدة الأمريكية التدخل في تلك الحرب.
وأيضاً فقد يحدث للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية ولدول أوروبا نفس الشيء، في حال اتسع مدى الحرب لتطول هذه الدول مجتمعة ودون تمييز، وهو أمر قد يقع، وكل ذلك سيؤدي إلى انهيار النظام الدولي فهو في طريقه للتغيير لا محالة، وهذا سيؤدي إلى انتشار الفوضى، وازدياد عدد اللاجئين والنازحين الذين قد يتجاوزوا مئات الملايين.