
على الرغم من كل دعوات التحرر والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، فإنّ المرأة العربية ما تزال تعاني بشكلٍ حاد من محاصرة العديد من الجهات، مثل تلك القيود التي تفرضها عليها الأسرة، وقيود المجتمع بأفكاره وعاداته وتقاليده وأعرافه، التي لا تصلح كلها لحياة عصرنا الحالي الذي نعيش. كما تعاني من المحاصرة في المدارس والمعاهد والجامعات وفي أماكن العمل،وأماكن العبادة، يضاف إليها ما تعانيه من تكبيل السياسة وقيودها بكافة أشكالها وانتماءاتها، كما يتم تقييدها بطبيعة الأنظمة التي لا تمنح المرأة حقوقها الإنسانية والاجتماعية ومساواتها مع الرجل، لأن الدساتير والقوانين والتشريعات تميّز بين الرجل والمرأة بشكلٍ واضح لا لُبسَ فيه، فتجعلها مواطنة من الدرجة الثانية مهدورة الحقوق. حيث نجد أنّ بعض العقائد الدينية (الطائفية) و(المذهبية) تحط من المرأة ومكانتها وقيمتها كإنسانه لها كل الحقوق المنصوص عليها، وليست مجرد أداة للجنس. كل هذه العوائق والحواجز التي تقف حائلاً أمام المرأة في حياتها لا تشعرها بالإطمئنان والأمان ،وتفقدها الشعور بالحرية والمساواة مع الرجل، وتجعلها عرضةً للتحرش الجنسي بمختلف درجاته وأساليبه. لذلك وجب تسليط الضوء أولاً على ما تعانية المرأة في وطننا العربي، وثانياً وجب إيجاد معالجة كافة الأسباب التي تؤدي إلى إنتهاك حرية المرأة وكرامتها ووجودها الإنساني، وتقلِّل من مستويات التحرش اللفظي بها إلى أدنى المستويات.
ما تتعرض له المرأة في بلداننا العربية ينافي المنطق الأخلاقي والفكري، ويناقض كل القيم والمبادئ الإنسانية التي مُنِحَت للإنسان عبر القوانين والتشريعات السماوية والطبيعية، لأنّ التحرّش الجنسي فعلٌ لا ينسجم على الإطلاق مع الأخلاق السامية ،بل يتعارض مع ما يعتبره الرجل من النواميس والمقدسات بالنسبة له، ألا وهي الأم والأخت والإبنة والزوجة، والتساؤل هنا هو كيف يقبل الرجل بأن تكون هذه النواميس وتلك المقدسات ساحة لسحقها وإهانتها وإذلالها، والأعتداء على كرامتها الإنسانية. فمن أعتدى على كرامات الناس سيُعتدى على كرامته بأي شكلٍ من الأشكال، وهل يرضى الرجل المعتدي بذلك.
ظاهرة التحرش اللفظي والجنسي يعكس مقدار وحجم المشاكل والأمراض النفسية التي يعاني منها معظم الرجال في المجتمعات العربية، ومن أجل الإنصاف لا نعني كل الرجال بل من يقوم بفعل التحرش بكل مستوياته. والتحرش هو أي شكل من أشكال التواصل الجسدي دون موافقة الطرف الآخر وإهانة وتحقير الهوية الجنسية للفرد، وهي سلوكيات عنصرية تستخدم التهديد والابتزاز. منها التقاط الصور بدون موافقة، والتعليق على المظهر الجسدي مثل الجسم أو الملابس. وهو إنعكاس سلوكي عملي لمكنونات وبواطن الفرد الداخلية، وهو الظاهر من الكم الكبير الهائل من المشاكل النفسية التي يعاني منها الرجل في بلداننا العربية. هذا السلوك يبين بشكلٍ من الأشكال مقدار الوعي والمستوى الثقافي والمعرفي في المجتمع.
وهو يُظهِر في الوقت نفسه المكانة الدونية للمرأة في الأسرة والمجتمع. وهذه اللامساواة وهذا التمييز بين النساء والرجال يستند أيضا على أسس وقواعد راسخة قوية في كافة المجتمعات العربية على اختلاف تكوينها ومختلف آنظمتها الملكية والجمهورية، والعشائرية العائلية، والعلمانية بسياساتها القومية العلمانية، والدينية والطائفية. أنَّ كل تلك الأنظمة لم تضع أي حد لمصادر إنتاج فعل التحرش والأعتداء الجنسي المرفوض، ولم تضع أسس وقواعد ثابتة ومتينة. والأرضية التي تستقي منها قوتها ونفوذها. كما أنّ الأنظمة السياسية أغفلت هذا الجانب من خلال عدم قيامها بسن القوانين والتشريعات التي تحد من فعل التحرش والأعتداء الجنسي على المرأة والأطفال. ومجابهة هذه الظاهرة يحتاج إلى إرادة غالبية المجتمع العربي وذلك من خلال بناء نظام محكم قائم على احترام حقوق الإنسان، ويحقق المساواة والعدالة بين الرجل والمرأة بدون تمييز.
وللإنصاف هناك بعض الدول أصدرت قوانين محاربة العنف ضد النساء حيث تحظر فيه التحرش الجنسي بالنساء في الأماكن العامة.فكانت المؤشرات تؤكد على وجود إطار قانوني يوفر للنساء حماية قانونية من أشكال العنف ضد النساء والفتيات. ونادًرا ما يتم تعريف التحرش الجنسي باعتباره فعلً يُرتكب ضد إرادة المرأة. وهو مذكور في قانون العقوبات الفلسطيني والأردني، حيث يتم الإشارة إليه باعتباره (اتصال جنسي غير رضائي)، بينما هذا السلوك يعتبر أنه مرتبط (بفعل فاضح علني) في الجزائر ولبنان ومصر. من ناحية أخرى، اعتمد لبنان قانوًنا جديدًا للتحرش الجنسي يجرم جميع أشكال التحرش الجنسي في شهر كانون الأول 2020.
في المملكة الأردنية الهاشمية لم يرد مفهوم التحرش الجنسي صراحة في قانون العقوبات، وهو يقتصر بشكل أساسي على جريمتي (المداعبة) و(الفعل المخل بالحياء العام). في فلسطين، يُجرم قانون العقوبات التصرف الجنسي غير المرغوب فيه بمقتضى المادة (305) من قانون العقوبات التي تتناول التحرش بالنساء في الأماكن العامة، بالمقابل، لا يحظر قانون العمل التحرش بالنساء بشكل واضح وصريح. بمقتضى قانون العمل لعام 2000، يحظر التمييز بين النساء والرجال في مكان العمل. ومع ذلك، لا يشمل قانون العمل أي حظر محدَّد للتحرش الجنسي أو أي أشكال أخرى من أنواع وأشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي في مكان العمل. هذا من جهة ، من جهة أخرى فإنَّ الأنظمة السياسية الاستبدادية القمعية المخابراتية في بلداننا العربية وبدرجات متفاوتة هي تمارس وعلى أكثر من خمسين عاماً التحرّش والاعتداء الجنسي بدون أن يقدم أي عنصر منهم أو صف ضابط أو ضابط أي حساب على ما فعله من سلوك شائن. وهذه الحاضنة السياسية وهذا المناخ مازالتا حتى يومنا هذا تشجع على إنتشار هذه الظاهرة الإجرامية والسلبية.السقوط الأخلاقي للأفراد تبقى حالات فردية بنظر السلطات القائمة، وقد تزداد نسبته في هذا المجتمع أو ذاك بشكلٍ غير مسبوق. ولكن الأنظمة القمعية والاستبدادية عندما تلجأ إلى هذا الفعل الشنيع وبشكل مدروس وممنهج من أجل أهداف سياسية لكسر إرادة المعارضين، هي بفعلها الشنيع هذا تجعله مباح للأخرين ووسيلة إنتقام لها عواقب نفسية واجتماعية خطيرة. وكثيراً ما تتعرّض النساء والفتيات وحتى الشبان للتحرش الجنسي في السجون والمعتقلات دون أي رادع أخلاقي أو قانوني .
وظاهرة الأعتداء والتحرش الجنسي في ظروف أحتدام الصراع السياسي بين القوى المعارضة والأنظمة السياسية القمعية القائمة يستخدم كأحد الأسلحة المدمرة نفسيا واجتماعياً وأخلاقياً. كونها تأخذ قدراً وانتهاكاً كبيراً بشكل جماعي وأشمل وأمام أعين الأهل والأقارب مما يجعله يتميّز عن بقية الظروف وحالات اللاحرب. هذا الفعل الهمجي الشنيع والعدواني تمّ ويتم في ظروف الحراكات الشعبية والثورات العربية والانتفاضات تحطيم معنويات الثوار والحرائر وإهانتهم وكسر المعنويات لدى المناضلات والناشطات في الحراك الثوري العربي. وهي إحدى الاساليب القهرية التي تمارسها أنظمة الطغاة والاستبداد والعصابات، والجماعات المسلحة، من أجل إرضاخ الشعوب. وكانت أقبية السجون والمعتقلات أماكن يقوم بها أفراد وصف ضباط وضباط الأجهزة الأمنية حامية السلطة السياسية القمعية المستبدة في البلد بالأعتداء الجنسي الوحشي الممنهج وإنتهاك كرامة المرأة وإنسانيتها. وهكذا نجد أنّ الأنظمة السياسية في بلداننا العربية بكل تشكيلاتها الإدارية تتعامل بازدواجية وتمييز عنصري فاضح ومهين مع المرأة وقضاياها الإنسانية والسياسية من ناحية الواجبات والحقوق والمساواة أمام القانون. وهذا يتنافى مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة Charta der Vereinten Nationen الذي يؤكد على المساواة التامة بين الرجال والنساء. فقد بدأ دعم هيئة الأمم المتحدة لحقوق المرأة مع الإطار الدولي المعلن في ميثاق الأمم المتحدة. ومن بين مقاصد هيئة الأمم المتحدة المعلنة في المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة : (لتحقيق التعاون الدولي.على تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعاً والتشجيع على ذلك إطلاقاً بلا تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين ولا تفريق بين الرجال والنساء.(
الجدير بالذكر أنّ الأمم المتحدة ومنذ عامها الأول قام المجلس الاقتصادي والاجتماعي بأنشاء لجنة خاصة لوضع المرأة بصفتها الهيئة العالمية الرئيسة لصنع السياسات المتعلقة حصراً بتحقيق المساواة بين الجنسين الرجل والمرأة، والنهوض بالمرأة. وكان ومن أوائل أنجازاتها هو ضمان لغة محايدة بين الجنسين في المشروع الهام للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وأصبحت المساواة بين الجنسين جزءاً هاماً من القانون الدولي لحقوق الإنسان بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يعتبر وثيقة تاريخية هامة صاغه ممثلون من مختلف الخلفيات القانونية والثقافية من جميع أنحاء العالم، واعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاصمة الفرنسية باريس في 10 كانون الأوّل عام 1948 بموجب القرار رقم ( 217000) بوصفه المعيار المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب وقد أقرت تلك الوثيقة البارزة في تاريخ حقوق الإنسان بأنَّ (جميع البشر يولدون أحراراً متساوون في الكرامة والحقوق "وأنَّ" لكل فرد الحق في جميع الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان، دون تمييز من أي نوع، مثل العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو المولد أو أي وضع آخر ).
أن ظاهرة التحرش والأعتدء الجنسي الشنيع يجب معالجته على مستويات مختلفة من أجل إنهاء أو التخفيف قدر الإمكان من هذه الظاهرة اللا أخلاقية والمشينة التي لا يمكن القضاء عليها 100% إلا أنه يجب حصرها في حالات فردية ونادرة فقط .