
ما من استعمار غزا بلد من بلدان العالم إلّا وحمل معه إضافةً إلى الصبغة العسكرية مشروعاً ثقافياً يهدف من خلال تعميمه، سرقة ثروات ومقدَّرات الشعوب وخيراته ، فنراه يعمل بكلِّ ما بوسعه على محو الثقافةِ كلياً وتزييف التاريخِ والتراثِ إن لم يتمكنوا من التخلّصِ منه. هذا النموذج وجدناه في الحملات الأنكلوساكسونية إلى الأرض الجديدة التي سميت فيما بعد الولايات المتحدة الأمريكية . كما شاهدناه في الاحتلال العثماني للوطن العربي الذي مارس سياسة التتريك والتجهيل والإفقار للشعوب العربية التي احتلّها . كما قام الإحتلال الفرنسي بنشر الثقافة الفرانكفونية وتعميم نشر اللغة الفرنسية ومحى بذلك لغات وثقافات العديد من الشعوب التي احتلها . وكذلك الاحتلال البريطاني والصهيوني وغيرهم . كما قامت الولايات المتحدة ومن خلال وكلائها بضرب العمق التاريخي والحضاري والإنساني في العراق بتحطيم الآثار العراقية وسرقتها ونهبها ،وكذلك الأمر فعلوا في أفغانستان التي تم تدمير تمثال بوذا باميان الذي كان موجوداً لحوالي 2000 سنة. كما قام الاحتلال الإسرائيلي بطمس الهوية الفلسطينية وعبرنة أسماء المدن والقرى والجبال والوديان والسهول إلخ .
الاستعمار الثقافي أو كما يسمّى الإمبريالية الثقافية يشمل الجوانب الثقافية للإمبريالية العالمية ،فقد ظهرت ما بات يعرف بــ (العولمة) التي تبلورت مع ظهور عصر الرأسمالية . والتي شهدت البشرية حالةً من التطور السريع على مختلف الأصعدة ،حيث يتم نشر الثقافات والمعلومات بسرعةٍ فائقة وبأداوات عديدة تتسم بالذكاء الصناعي. وهكذا فإنّ الثقافة الإمبريالية تشير بوضوح إلى خلق علاقات غير متوازنة وغير متساوية بين الحضارات الإنسانية ، وتفضِّل الحضارة الأقوى ، بما يعني فرض ثقافة الآخر بالقوة الخشنة والناعمة حسب الظروف المتاحة، كما تعني إلغاء الثقافة الأخرى بشكلٍ أو بآخر ،يحدث هذا عندما تكون الأمة قوية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ، وتتحكَّم في المجتمعات الضعيفة أو الأقل قوة منها بعبارة أدق، بالتالي، فإن الهيمنة الثقافية للبلدان الصناعية المتقدمة أو ذات النفوذ الاقتصادي الكبير هي التيتسعى إلى تحديد القيم الثقافية العامَّة وتوحيد الحضارات الإنسانية في جميع أنحاء العالم.
هذا المصطلح يستخدم أيضاً في مجالات التاريخ والدراسات الثقافية ونظرية ما بعد الاستعمار الكولونيالي بشكلٍ خاص . وعادةً ما يتم استخدام هذا المصطلح بمعنى ازدرائي،ومحاولة الانتقاص من الآخر ،وغالباً ما يتم ذلك بالتزامن مع أصوات ونداءات لرفض هذا التأثير، كما يمكن للإمبريالية الثقافية أن تتخذ أشكالاً متنوّعة ومختلفة، مثل السياسة الرسمية والدبلوماسية بنوعيها الخشن والناعمة، أو العمل العسكري العنفي، بقدر ما تعزز الهيمنة الثقافية والسيطرة على منتجيها.
وعلى الرغم من أنّ هذا المصطلح سهلاً لكن تم تقديم العديد من التعريفات المختلفة والمتنوعة ذات الصلة، فقد كتب الناقد الإعلامي وعالم الاجتماع والباحث الأمريكي هيربرت شيلر (1919 - 2000) م مؤلِّف كتاب (المتلاعبون بالعقول) : (إن مفهوم الإمبريالية الثقافية في الوقت الحالي يصف بشكلٍ أفضلَ مجموع العمليات التي يتم من خلالها أخذ المجتمع بكل فعالياته إلى النظام العالمي الحديث، وكيف تنساق طبقاته المسيطرة ، بممارسة الإجبار والضغوط، وأحيانا ترشَّح في تشكيل المؤسسات الاجتماعية لتتساوق وتتوافق مع إقامة هياكل المركز المهيمن في النظام السائد، وتعتبر وسائل الإعلام العامة وتفرعاتها واستطالاتها هي المثال الأول للمؤسسات العاملة التي تستخدم في العملية الاختراقية بهدف التغلغل والانتشار على نطاق واسع في وسائل الإعلام. والتي يجب أن يتم الاستيلاء عليها من خلال القوى المهيمنة على تنوعها، وهذا يحدث إلى حدٍ كبير من خلال تسويق البث ونشر المعلومات بشتى الطرق والوسائل.
من هنا يمكننا القول بأنّ (الإمبريالية الثقافية) هي نمط استهلاك ثقافي ومعرفي يتأسس على شكلٍ جديد للإمبريالية العالمية ، الذي تم تشييده على أنقاض النظام الإمبريالي القديم الذي عفى عنه الزمن .حيث تجلّت فيه الإمبريالية باعتبارها (أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية) حسب وصف قائد الحزب البلشفي فلاديمير ألييتش لينين (1870ـــ 1924) م ، وكان الفيلسوف وناقد للاقتصاد السياسي وعالم الاجتماع والمؤرِّخ والمنظِّر السياسي الألماني كارل ماركس (1883 ـ 1818) م الأسبق في الكشف عن قوانين التطوّر الرأسمالي، إلّا أنَّ ما أظهرته العولمة من أنظمة وقوانين جديدة تحتاج إلى متابعات ومعالجات جديدة استناداً إلى استحقاقات واستنتاجات مختلفة تتجاوز الفيلسوف كارل ماركس وفلاديمير أليتش لينين، بحكم التطوّر الذي حصل في المرحلة الرابعة للثورة الصناعية العالمية ، الأمر الذي فرض سلوكاً ونمطاً استهلاكياً ثقافياً ومعرفياً عالمياً أريد له أن يكون وحيداً، بينما كانت الإمبريالية القديمة تسعى لسيادة أسلوبها ونمطها الإنتاجي الاقتصادي الذي يملك القدرة على التحكّم باحتياجات السوق ومتطلّباته لإحكام التبعية والهيمنة بكل أشكالها وتجلياتها .
ومن مستخدمي هذا المصطلح، الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو) 1984 ـ 1926 ) م الذي يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين وهو المتأثر بالبنيويين . والفيلسوف والناقد والأديب الفرنسي جاك دريدا
(1930 - 2004) ،والمنظِّر الأدبي الفلسطيني الأمريكي إدوارد وديع سعيد (1935 القدس - 2003 نيويورك) م وهو أحد أهم المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب في العالم. وغيرهم من منظري ما بعد البنيوية وما بعد الاستعمار الكولونيالي . وما نجده في إطار خطاب ما بعد الاستعمار الكولونيالي. لذا فإنّ هذا المصطلح قديم ، ولو عدنا لقراءة التاريخ السياسي لإيطالية لوجدنا أنَّ روما كانت تتبنّاه منذ زمنٍ بعيد، وهذا ما يفسر ويشرح من خلال قراءة التاريخ بعمقه وشموليته ، والمخطوطات والوثائق القديمة التي تم العثور عليها، وجود طبقات اجتماعية متنوِّعة من عمَّال وعبيد وجواري وخدم وما إلى هنالك، وهذا يدلّ دلالةً واضحةً على أنَّ كهنوت السلطة كانوا ولا يزالون يتربعون تحت أقدام عروش الحكّام في قصور وبلاطات الحكّام لتحديد الثقافة على مقاسهم وهواهم وليس بما يملك البلد هذا أو ذاك من إمكانيات.