
تكمن أهمية العلوم السياسية بقدرتها على شرح وتفسير عدد كبير من المفاهيم والاصطلاحات المتداولة في الشأن السياسي والدولي على نطاقٍ واسع. فمثلاً هنـاك خلط كـبـيـر بـين عـمليـة صنع القرار، وعملية إتخاذ القرار، فعملية صنع القرار تكون طـويلةً وصـعبةً ومعـقَّـدة، وعمليةُ اتخاذ القرار تكونُ قصيرةً وسـهلةً، وأقلُّ تـعـقـيـداً بـكـثـيـر مـن صناعة القرار .
من المعلوم أنّ من يقوم بصناعة القرار هم من يمسكون بتقاليد المعرفة المتكاملة بقضيةٍ ما. وهم طبقة من الدارسين والمستشارين والخبراء الذين يبحثون بعمقٍ شديد عن القرار الصائب، من خلال البحث عن الخيار الأنسب والأفضل، هؤلاء الخبراء والإستشاريون هم الذين يقومون بذلك، من داخل المؤسسة أو من خارجها، لأنّ أصحاب القرار لا خبرَة كافيةَ لهم في الموضوع، أو لا يمتلكون الوقت الكافي لصناعة القرار. لذا تقتضي العادة والعرف السياسي أن يقوم بها أشخاصٌ كثيرون أصحابُ خبرة واسعة، وأنَّ إتخاذ القرار يقوم به عادةً عددٌ قليلٌ من الأشخاص، أوفرد واحد يكون من كبار المسؤولين .
في التاريخ السياسي الدولي نلحظ كثيراً أنّ بعض القرارات الصائـبة، تسـقط كلياً أوجزئياً، بسبب هذا الخلط المتمثل في أنَّ القائد أو المدير أو المسـؤول، يتصوّر أنّ مسؤوليته تـنحصـر فـي تقـرير ما يجب عمله، وما يجب القيام به، ومن ثم إعـلان القـرار بكلِّ بساطةٍ وسهولةٍ ودون عناء. من هنا كان الحديثُ عن صنع القرار يحتاجُ إلى بحثٍ من نوعٍ خاص عن وجود مجموعة من الخيارات المُتاحة، يتمُّ التركيز على الأفضل والأجدى بينها. والأفضل يعني الأقل خسارةً والأقلُّ هدراً، والأكثرُ مكسباً وتفوقاً. وحين تنعدمُ الخيارات المطلوبة، أو الخياراتِ المُتاحةِ في وقتٍ من الأوقات، تكون الغَلبَة لقانون الفعل وردّ الفعل، وما عبّر عنه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي بقانون التحدّي والاستجابة. والذي يرى في نظريته أنّه كلما ازداد التحدّي تصاعدت قوة الاستجابة، حتى تصل بالقائمين عليها إلى ما يسميه بـ (الوسيلة الذهبية)، التي تتلخّص في أنّ أي حضارة في العالم تقوم بمواجهة التحدّي القوي، بسلسلةٍ من الاستجابات التي قد تكونُ أحياناً فاشلةً وغيرُ ناجحةً في مواجهة التحديات الكبرى، التي تعترضُ طريقَ النهضةِ والعمرانِ والحضارةِ، ولكن بالإشراف على التحدّي وكثرة المحاولات المتعدّدة والمتنوعة تهتدي الأمم إلى حلولٍ لعقدها.
إنّ معظم أدبيات صنع القرار، في الأغلب، تكونُ غربيةً أوروبية، وأمريكية بشكلٍ خاص، ومصدرها الأساسي سياسيون وأكاديميون وخبراء قريبون من دائرة صنع القرار، تعاملوا مع العديد من الأزمات والقضايا الدولية الصعبة والمعقّدة وتحديداً في حقبة الحرب الباردة (١٢ آذار ١٩٤٧ ـ ٢٦ كانون الأول ١٩٩١) م. كالحرب الكورية (١٩٥٣ ـ ١٩٥٠)، وأزمة الصواريخ الكوبية (١٦ تشرين أول ١٩٦٢ ـ ٢٩ تشرين أول ١٩٦٢)، والحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية ضد الهند الصينية. والتي تسمى أيضاً (الحرب الفيتنامية الفرنسية) والتي كانت كانت نزاعاً حاداً في الهند الصينية في الفترة بين عام (١٩٤٦ ـ ١٩٥٤) بين قوات الاحتلال الفرنسية، والمجموعات العسكرية الموالية لها من جهة، (مع فيت مين) أي (اتحاد استقلال فيتنام) الذي تشكّل بواسطة الزعيم الفيتنامي (هو شي منه) من جهةٍ أخرى. وذلك يعني أنَّ هذه الأدبيات تعامَلت مع أزماتٍ محدّدة بعينها، وليس لها شأنٌ بالعلاقات الدولية. كما أنَّها لم تتناول الشأن الداخلي، كقضايا التنمية والاقتصاد وحماية البيئة. وهذا يدلّ على أنّ أدبيات صنع القرار، تمَّت ضمنَ نطاقٍ محدود وضيِّق، وليس لهُ علاقةً بالمتعارَفِ والمألوفِ، بل كرّست للتعامل مع نقيضه بشكلٍ واضح وصريح. وعلى هذا الأساس، لا تزال قضية الفقر والحاجة والجوع، في موضوع أدبيات صنع القرار، هي السائدة، مع والوعي بأهمية سدّ الفراغ وردم الفجوات الناتجة عن عدم وجود البديل. وهذا الكلام، ينسحب للأسف الشديد حتى على واقع المنظمات الدولية، كمنظمة هيئة الأمم المتحدة، والمنظمات التي تقع تحت مظلتها وبرعايتها، دون استثناء. فمجلس الأمن الدولي، لا يزال محكوماً، حتى يومنا هذا بالظروف التي تأسَّس فيها، وهو نتائج الحرب العالمية الثانية عام (١٩٣٩ ـ ١٩٤٥ (، على الرغم من أنّ الكثير من حقائق توازنات القوة، قد تغيّر بشكلٍ دراماتيكي، وتحوّلت بنيته منذ ذلك التاريخ، وأصبحت الحاجة ملحّة لتغيير اللوائح والهياكل العامة والخاصة، بناءً على حقائقَ ومعطياتِ القوّة الجديدة الناهضة.
الجدير بالذكر أنَّ معظم القرارات الدولية، تستند إلى التقاليد والأعراف الدوليّة المتبعة، واستنساخ اتفاقياتٍ ومعاهداتٍ سبقَ التوصُّل لها بين الدول الغربية على وجه التحديد. وهذا يشمل قضايا الحدود والتخوم والمياه والأنهار والموارد العامة، وليس هناك ضوابط قانونية أو إدارية محدّدة تحكمها. وهذا تعبيرٌ واضحٌ وصريحٌ عن قلّة الأدبيات الخاصّة في صناعة القرار، ويعاني من نقصها الشديد صانع القرار الأممي، إضافةً إلى العديدِ من العواملَ الأخرى التي أدّت إلى إشكالاتٍ كبيرةٍ وخلافاتٍ بينيّةٍ، وأعاق حركة وعمل المنظمات الدولية، ومنعها من تحقيق أهدافها ومراميها التي تأسّست من أجلها.
هذا الأمر ينسحب على بقية الدول الغربية بشكلٍ عام، بخاصة بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، ومن ضمنها الدول الأوروبية، وهذا الأمر لا يختلفُ كثيراً. لقد أثقلت نتائج الحرب العالمية الثانية على وجه التحديد والدقة ، بثقلها على تلك البلدان، وجعلت منها تابعاً ليّناً طائعاً للولايات المتحدةِ الأمريكية، بحيث غابت سياساتها الخاصّة وذابت في ظلِّ تلكَ التبعيةِ الماحقةِ. وهذا ينسحب أيضاً على معظم الدولِ الغربيّة، باستثناء جمهورية فرنسا، وفي مرحلة محدّدة وضيقة جداً، هي المرحلة الديغولية أي مرحلة حكم الرئيس شارل ديغول .( ١٨ حزيران ١٩٤٠ ـ ٣ آب ١٩٤٤) م في فرنسا الحرَّة .
أما في بلدان العالم الثالث أو في الدول النامية، ومن ضمنها وطننا العربي، فقد كان الأمرُ أسوأ بكثير. فهذه البلدان لا تمتلك أيُّ قرارٍ سيادي، ولا تمتلك الحجة ولا ترف التفكير في صنع القرارات، وتُدارُ في أغلبيتها بقوانين بطركيّة أبويّة، يتزعّمها زعيم الأمة القائد إلى الأبد ،وتتسم بالحكم الاستبدادي البعيد عن كل أشكال الديمقراطية، وبعيدة كلياً عن أيّ حالةِ استقلال حقيقي. وتبدو وكأنها خارج نطاق الأسرة الدولية، يُعشعِشُ الفساد والمفسدين في كل أروقتها ودهاليزها، والفرمانات والقرارات تصدر من جهاتٍ غير مستقلةٍ ،كونَها دولٌ ذيليّة، وقياداتها تسكن في الأبراج العالية، من دون تماس مباشر مع الشعب والواقع.
لقد نشأت أنظمة الحكم في وطننا العربي على شكل المزارع الخاصة، كلُّ زعيمٍ فيها يتصرَّفُ وكأنها أملاك شخصية يهبها لمن يشاء، ويمنعها عمن يشاء، وتحوّل النظام الجمهوري إلى نظام شبه ملكي عائلي وراثي، مع انتشار الممالك والإمارات والسلطنات، لكن ذلك لن يكون حالةً مستدامةً، في ظلِّ انتشار الوعي، وإزالة أركان الجهل والتخلف والتبعية، المترافقة مع التطورات العلمية الهائلة، التي تجري من حولنا في هذا العالم الكوني، الذي تحوّل إلى قريةٍ صغيرةٍ واحدةٍ، بسبب ثورة الاتصالات الهائلة، والتسارع في صناعة الأجهزة الأليكترونية المتطورة والذكاء الصناعي، وأدوات الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) .
إنَّ تلك التطورات المتسارعة والخارجة من أيّة ضوابط رقابية، تفرض على الجميع أن يعيشوا زمناً واحداً متصلاً ومتواصلاً، وهذا أمر لا مفر منه. وتلكَ التطورات ستُعيد عاجلاً أم آجلاً، الاعتبار لضرورةِ سدّ الفراغ في أدبيات صنع القرار وتطويرها وتداولها. لتتجاوز مجرَّد التعامل مع الأزماتِ والقضايا الدوليّة، ولتأخذَ مداها الواسع بشكلٍ عامودي وأفقي.
ـ عامودي بحيث تعكِسُ طبيعةَ العلاقة بين البناء الفوقي السياسي الإداري، والعلاقات الدولية والمجتمعات الإنسانية، التي تنضوي معه.
ـ وأفقي في ما يشمل العلاقات والمصالح بين الدول والممالك والإمارات والسلطنات. وكلاهما يحتاج إلى وقفة تفصيل وشرح وافي .
إنَّ عملية صنع القرار بحدِّ ذاتها تشغل موقعاً خاصاً ومتميزاً في إطار العملية السياسة عامةً، والسياسة الخارجية للدولةِ بشكلٍ خاص، فالحكم والسياسة ما هما ـ في نظر البعض - إلَّا مجموعة من القراراِت الناظمةِ الصادرة من مستوياتٍ أعلى، إلى مستوياتٍ أقلّ إدارياً أو رئاسياً، إلّا أَّنَّ الأمرَ يختلفُ كثيراً في القرار على مستوى الدول، أو الحكومات. لأنَّ القرارات في السياسة الخارجية لدولةٍ ما، ليست أوامرَ غيرُ قابلةٍ للتغييرِ أو التعديلِ، أو صادرةً ممن هو أعلى مرتبةً تجاهَ مَن هو أقلُّ مرتبةً، بل هي قرارات تبتغي بها الدولة تحقيق أهدافها القومية ومصالحها في المجال الخارجي، في إطارِ محدِّدات قوتها القومية، ونظام أمنها القومي، ومعطيات البيئة الدولية في نفس الظروف التي تصدر فيها .
لمّا كانت السياسة الخارجية هي برنامج عمل مدروس بشكلٍ مُحكَم في المجالِ الخارجي، فإنَّه يتضمن الأهدافَ والوسائل والطرق التي تحقّقه، فإنَّ القرارات هي بمثابةِ الترجمةِ العمليةِ والفعليةِ لتلك البرامج، في صورةِ قراراتٍ وتحركاتٍ وأفعالٍ تتخذها الدولة، تحقيقاً لذلك البرنامج وذلك المنهج . وينبغي على أدبيات صنع القرار، أن ترتقي إلى مناقشة شكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة والشعب، وأن تتناول قضايا هامّة تخصُّ الجميعَ، هي قضايا محلية كالصحة والتعليم، والصناعة والزراعية، والأوبئة الطارئة، وقضايا البيئة، والمشاكل الأخرى التي لا تزال مستعصيةً على الحل. كما ينبغي أن تناقش العلاقة بين الدول فيما بينها، وعناصر التطور والتقدم فيها. والبحث الجاد في ما هي معايير الصداقةِ والخصومةِ معها.
القضيةُ الهامّة جداً، والمفروض تحققها، هو أنَّ أدبيات صنع القرار، ينبغي أن تنطلق من المصالح الوطنية والقومية للدولةِ، ولا تكون على حسابها أبداً. وإلا تكون تابعة لغيرها، وفي العلاقات بين الدول ليس هناك صداقات دائمة بل مصالح مشتركة. والعلوم السياسية تؤكِّد على ذلك باستمرار. وهذا القول يحمل نقيضه في داخلهِ، فليسَ هناكَ عداواتٌ دائمة، بل مصالح تحكم مسارها واتجاهاتها.
وفي وطننا العربي، نجد حالةَ الخلطِ قائمةً بين عـمليـة صنع القرار، وعملية إتخاذ القرار، وينبغي على المشتغلين في السياسة وإدارة الحكم والسلطة، التمييز عند صناعة القرار، بين ما هو سياسي ومؤقت، وبين مصالح ثابتةً بين أبناء الأمّة، والحفاظ على المصالح الوطنية والقومية. وهذا يعني تحييد النزاعات والصراعات البينية، وتغليب المصالح الوطنية والقومية على المصالح الشخصية، أو مصالح الآخرين، لما فيه مصلحةُ الأمّةِ ومنعتها وقوّتها .لذا فإنَّ كل ما نرجوه أن تتجاوز أدبيات صنع القرار جميع الأزمات بشكلٍ عملي وواقعي، وأن تتحوّلَ في علاقاتها الدولية من الإطار السلبي إلى الإطار الإيجابي الأكثر قوةً واتساعاً .