ما تزال الهجرة غير الشرعية تجاه القارة الأوروبية في تصاعدٍ مستمر. وما تزال الأخبار تتواتر وتتناقل حول غرق العشرات بل المئات من اللاجئين في البحر الأبيض المتوسط، فهو محيط من الإنكار واللامبالاة العربي والإفريقي، حيث يضع البحر الأبيض المتوسط، أو بحر ايجة، أو بحر الروم ...المصابين بالإنكار والتهميش، والذين يمارسون التجاهل واللامبالاة لما يحدث حولهم في المنطقة العربية والعالم أجمع، أمام حقيقة بسيطة مضمونها الأساسي، أنَّ الإنكار والتجاهل واللامبالاة لن يُفيد، والجائحات والأزمات المتكرّرة، والحروب الدامية، وإن كانت صغيرة في بعض البلدان، فهي قابلة للتوسع والتمدّد حتى أبعد من مكة، وإن انحصرت في مكانها وبقيت في جغرافيتها، فعواقبها الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية ستتمدّد إلى الجوار بدءاً، وإلى أبعد منه لاحقاً. حتى البحر بكل جبروته رفض أن يتواطأ بالصمت مع الحكومات الأوروبية التي تحاول أن تتعامل مع قضية اللاجئين والمهاجرين الهاربين من بلادهم الموبوءة بالحروب الأهلية الدامية، والهاربين من العنف والفقر المدقع، ومتلازمة اليأس المزمن، وفقدان الطموح والأمل في المستقبل،.بل بالحياة الإنسانية الكريمة .
فلا يكاد يمرُّ يوم إلا ويتعرض أحد قوارب المهاجرين الصغيرة والمشاركة في رحلات الموت في أغلب الأحيان للغرق في البحر الأبيض المتوسط، الذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى مقبرة لآلاف المهاجرين الفارين من حياة البؤس والدم، والذين يحاولون العبور من ضفافه الجنوبية الدافئة باتجاه الشمال البارد، بحثاً عن الأمن والأمان والعمل، والأمل والحياة الحرة الكريمة، لكنهم غرقوا مع آمالهم وتطلعاتهم التي كانوا يحلمون بها ويتوقون للعيش في تلك البلاد، و(تحوّل البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة كبيرة تدفن فيها الكرامة الإنسانية)، حسب قول البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية وترتيبه السادس والستون بعد المائتين من الباباوات.
تقول منظمة هيئة الأمم المتحدة للهجرة، إن الربع الأول من العام الحالي ٢٠٢٣ م، سجل وحده غرق ٤٤٣ شخصاً، فيما غرق أكثر من عشرين ألف شخص منذ عام2014 م .
جميع من غرقوا تحوّلوا إلى مجرَّد أرقام في السجل الإنساني، دوّنت أسمائهم بالحبر الأسود. أما الذي قدّر لهم الوصول إلى بر الأمان في الدول الأوروبية بعد صراع مرير من الأمواج العاتية وتجار البشر المنزوعي الإنسانية، ويصل عددهم إلى الملايين فإنهم يواجهون في بعض الدول الأوروبية صعوبات قاسية، أولها الصدمة الحضارية الغربية، وثانيها أشكال من الاضطهاد والعنصرية من بعض المتشددين اليمينيين الشعبويين، ويتعرضون في بعض الحالات للعنف والطرد وتجارة الجنس،أو يعانون في مراكز اللجوء بانتظار تقرير مصيرهم، كما حصل في بريطانيا والمجر وغيرهما.
لقد أوردت صحيفة Washington Post الأمريكية تقريراً تضمن الحديث عن عنصرية التعامل مع اللاجئين. حيث قالت : ( بسرعة عنصرية التعامل مع اللاجئين لدى أوروبا عندما، صاغ القادة الأوروبيون إجماعاً سياسياً كان غائباً خلال الكوارث الإنسانية السابقة، وتجاهلوا الإجراءات التي لا تزال تُستخدَم لمنع طالبي اللجوء الآخرين، في تناقضٍ شكَّلَته الاختلافات والعنصرية النابعة من العرق والجغرافيا والجغرافيا السياسية) .
ومع تصاعد الخطاب اليميني الشعبوي الأوروبي ضد اللاجئين، والخلاف الكبير القائم بين دول الاتحاد الأوروبي حول تقاسم أعباء اللجوء وتوزيع اللاجئين، فإن مأساة اللاجئين تتزايد يوماً بعد يوم، من دون التوصل إلى حلول إنسانية حقيقية، أو حلول عملية تحفظ كرامة هؤلاء من جهة، والتوصل إلى حل مقبول يحّد من الهجرة غير الشرعية، بالتوصل إلى اتفاقات مع دول المصدر ومع دول عبور اللاجئين، وذلك من خلال وضع آلية سياسية ومالية واقتصادية وتنموية وبرامج وخطط مدروسة بإحكام، يمكن أن تشكّل شبكة أمان كاملة متكاملة، تضع حداً لشبكات تهريب البشر غير المشروعة، وتساعد هذه الدول على القيام بواجباتها الإجتماعية والاقتصادية والأمنية في مواجهة التهريب.
الجدير بالذكر أنه تم التوقيع في وقتٍ سابق على مذكرة تفاهم من قبل المفوض الأوروبي المكلف بسياسة الجوار والتوسع أوليفر فارهيلي، وكاتب الدولة لدى وزير الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج منير بن رجيبة، في أعقاب اجتماع مطوّل عقد في تونس بين أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية ، ومارك روته رئيس الوزراء الهولندي، وجيورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية ، وقيس سعيّد الرئيس التونسي. وتهدف مذكرة التفاهم، التي تقدم الدعم المالي لتونس، إلى منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا، وزيادة عودة المواطنين التونسيين المقيمين في أوروبا بدون تصريح، وتسهيل عودة جنسيات أخرى من تونس إلى دول ثالثة يتم الاتفاق معها.
وقد تم التفاوض على الاتفاق بدون إسهام ومساندة المجتمع المدني في تونس، وغياب ضمانات حاسمة بشأن حقوق الإنسان. ولم يضم المؤتمر الصحفي الذي عقده قادة تونس والاتحاد الأوروبي عقب الاتفاق أي صحفيين، لذلك كان الإعلام غافلاً عن الكثير من التفاصيل .
في شهر حزيران الماضي توصلت الدول الأوروبية إلى اتفاق جماعي حول تقاسم مسؤولية ورعاية اللاجئين الواصلين إلى أوروبا، يقضي بوجوب تقاسم أعباء اللاجئين الجدد وتأمين احتاجاتهم، على أن تدفع الدول الرافضة للمشاركة بهذه الآلية المتفق عليها عشرين ألف يورو عن كل مهاجر للدولة التي يوجد فيها. لكن هذا الاتفاق لم يحظ بالإجماع من الدول المشاركة ،بخاصة التي تعاني من أزمات مالية حادّة ، إذ صوتت المجر وبولندا ضده، فيما امتنعت مالطا وبلغاريا وسلوفاكيا وليتوانيا عن التصويت، وهذا يعني بشكلٍ واضح وصريح أنّ الاتفاق سوف يوضع في الأدراج المغلقة، فيما الأزمة تراوح مكانها، مع ارتفاع معدلات طلبات اللجوء بنسبة 41%، منذ مطلع العام الحالي 2023 م، حسب تقديرات الأمم المتحدة، فيما تصاعدت وتيرة الخطابات السياسية المناهضة للهجرة في أوروبا مثل ترداد تعابير (موجات مد المهاجرين)،و(تسونامي المهاجرين)، و (غزو المهاجرين).
وكان من بين المواقف التي صدرت عن وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان التي تحدثت عن ما أطلقت عليه اسم (غزو المهاجرين لأراضينا) ،ودعوتها إلى إلغاء اتفاقية الأمم المتحدة حول تعريف (اللاجئ) التي صدرت عام 1951، واعتبرتها اتفاقية غير صالحة. ويعرّف اللاجئ وفق هذه الاتفاقية (أنه كل شخص يوجد خارج دولة جنسيته بسبب تخوف مبرر من التعرض للعنف والاضطهاد، لأسباب ترجع إلى عرقه أو جنسيته أو دينه أو آرائه السياسية، أو انتمائه لعضوية فئة اجتماعية معينة، وأصبح بسبب ذلك التخوف يفتقر إلى القدرة على أن يستظل بحماية دولته أو لم تعد لديه الرغبة في ذلك).
وهكذا فإن القارة الأوروبية المنكوبة بمواقف البعض بخصوص اللاجئين فيها والذي يتسم بالعنصرية ، تتقاسم غرق اللاجئين مع المتوسط وموتهم، في أسوأ تعبير عن مشكلة حضارية وإنسانية وأخلاقية.