لا تستقيم حياة البشر في تجمعات عيشه الإنساني دون النشاط التربوي الواعي. بيد ان ذلك النشاط في فهمه وتحديد مجالاته، ناهيك عن طرقه، يبقى مثار تساؤل ونقاش سواء على مستوى العامة وحتى الخاصة من المعنيين. فالمفهوم العام للتربية ينصرف الى جانب القيم والسلوكيات الاخلاقية، في حين ان مفهوم التربية يجب أن يمتد ليشمل مجالات كثيرة تتطلب من القائمين على تلك التربية من وعيها والاهتمام بها. وفي ذلك تتشارك كثير من "المؤسسات" منها الأسرة والمدرسة والأقارب والجيرة والحارة وأماكن العمل والعبادة والمنظمات الاجتماعية والسياسية والثقافية الأخرى.
وفي اطار التربية الحكومية لابد من الاعتراف بأن أكثر دول العالم واداراتها العامة قد انتبهت الى شمولية مفهوم التربية، وعياً أو تقليداً، حتى ان منها من قام باستبدال تسميات الوزارت المعنية من وزارات المعارف الى وزارات التربية أو حتى وزارات التربية والتعليم، تمييزاً لمهمتي التربية والتعليم رغم ترابطهما وتلازمهما.
من هنا ومن أجل تلك المهمة التربوية قامت المدارس ووضعت المناهج وأعد المعلمون ودرب المربون، وخصصت الأموال وشرعت القوانين والتعليمات ورسمت السياسات الوطنية الخاصة.
هذه المؤسسات والمناهج لا تعمل في فراغ فكري أو سياسي أو اجتماعي أو ثقافي، وتبقى متفاعلة مع الحاجات الاقتصادية والروحية والوجدانية للمجتمعات، والسياسية لأنظمتها التي تعيش في كنفها وتتفاعل معها.
والتربية في مدلولاتها اللغوية تشير الى معنى الزيادة والنمو والتدرب. فهي استزادة في معرفة وتمكناً في مهارة ووعياً للحياة وإحساساً بجمالياتها من ناحية، وقبحها من ناحية أخرى عبر مجسات الروح والحواس والوجدان والضمير والسلوك. وباختصار تتخذ التربية كلاً من العقل والروح والنفس والبدن والسلوك البشري أهدافاً لمراميها.

وبناءً على ما تقدم يمكن حصر المجالات الآتية باعتبارها ميادين فعل التربية:

١- مجال المعارف الاساسية المتطورة
تبدأ الأسرة بتعليم اطفالها، وبالطبع وفق تطور مداركهم، ما تراه ضرورياً للحياة في تحقيق تواصلهم مع محيطهم من بشر وغيره، والقيام لاحقاً بما يفيد من أعمال وما يحقق للانسان من إشباع لحاجاته ورغباته. وهنا تبدأ حكاية تعلم النطق وفهم الإشارة والتعويد على الاستجابة في صورها وأشكالها البدائية التي تستمر بالتطور مع نمو الطفل إدراكاً وقدرة.
وبعد بعض الوقت تتشارك دور الحضانة ورياض الأطفال والمدارس في تربية الجانب المعرفي في حياة الطفل وفق تطورات مراحله العمرية وخصوصياتها لديه أحياناً، من ناحية، وتطورات الاحتياجات الحياتية التي تجد نفسها في محاكاة وتنافس مع الحاجات الحياتية للمجتمعات الأخرى التي سقطت جدران وحدود وستائر فصلها كلياً، من ناحية أخرى.

٢- مجال تربية المهارات الحركية العضلية العصبية:
تتزامن تربية المهارات الحركية واللغوية والتعبيرية وتتداخل مع التربية في المجال المعرفي، لا سيما في مراحل الطفولة والشباب.
وفي ذلك تتشارك كثير من المؤسسات الى جانب الاسرة من رياض اطفال الى مدارس الى نواد رياضية وغيرها من الفعاليات، ناهيك عن الميول والمبادرات الذاتية في ممارسة العاب ونشاطات أخرى.

٣- مجال تهذيب الحواس وتوسيع الخيال:
لا ينبغي للتربية في أهدافها أو برامجها أو مؤسساتها من أسرية وغيرها أن تتجاهل أهمية رعاية وتهذيب وتنمية حواس الإنسان في نظره وسمعه وشمه ولمسه، وكذلك في مجال توسيع خياله. فللانسان ميول ورغبات واستعدادات، تقابلها قدرات وابداع ينبغي على التربية الاهتمام بها والتعامل معها.

٤- مجال رعاية وتطوير اساليب ومنطق التفكير والنقد والقدرة على التطبيق:
انها من أهم وأخطر مجالات عمل وفعل التربية قاطبة، أن تنجح أو تفشل التربية في رعايتها لتطوير أساليب ومنطق تفكير الإنسان، وتعويده على النقد البناء وتمكينه من الاستفادة من مخرجات تعلمه في تطبيقات حياتية مثمرة ومفيدة. ان اقتصار التربية على تلقين الإنسان معارف جاهزة والاكتفاء بحفظها وتذاكرها هي حالة فعل عقيمة لا تضيف شيئاً جديداً وقد اتخذت من رأس المتعلم خزاناً دون أن تجعله ورشة عمل منتجة. وهنا يطيب لي أن أكرر ما أحببته من عبارة لي بهذا الخصوص، والتي تقول:
" من لا يأتي بجديد فليس بجديد على الحياة". كما يعجبني ذكر المثل الصيني الجميل: "علمني على صيد السمك بدلاً من أن تصطاد لي سمكة".

٥- مجال التعامل الوجداني الانساني والفطرة السليمة:
يعيش الإنسان حياته مع اقران له من بني البشر، وهم أجناس في عقولهم وميولهم ورغباتهم. ان التعايش السلمي المثمر الجميل بحاجة الى تربية للوجدان الانساني وحفاظ على الفطرة السليمة النظيفة التي تعبث فيها، أحياناً، اقدار بشرية فتلوثها بالغيرة السلبية والاطماع والجشع والنوازع الشريرة.
من هنا ينبغي أن تتضمن مناهج التربية في ما تنقله من معارف وما تكسبه من مهارات ووجدانيات وما تضربه من أمثلة وما تفخر به من قدوة، ما يعين ويمكن من صقل الوجدان الانساني والحفاظ على نقاء فطرته.

٦- مجال السلوكيات وانماط التواصل الاجتماعي والضوابط الاخلاقية والقيم الاجتماعية:
الإنسان كائن حي اجتماعي في حياته. فحياة الإنسان لا يبقى لها كثير من معنى دون تفاعلها مع غيرها من حيوات الآخرين. فكم هو "فقير" من لا يحس بمشاعر الآخرين ولا تهمه حاجاتهم وآلامهم، ولا يفرح لمسراتهم، ولا يجد حاجة معرفية أو وجدانية فيهم. هل كانت حكمة الخلق، مثلاً، في حاجة الرجل الى المرأة، وحاجتها اليه في واحدة من متع الحياة؟! كم هي رائعة محبة الوالدين لأبنائهم وأحفادهم؟ وهل هناك من سعادة أكبر من فرح الإنسان بإسعاد الآخرين؟! ما زلت أشعر بسعادة وفخر في عبارة الإهداء التي حملتها رسالة الماجستير التي أتممتها عام ١٩٧٩، والتي تقول: إلى كل من أحببته، إلى كل من يزرع إبتسامة على شفاه الآخرين".
نعم إنها المهمة والمجال الأكبر للتربية أن تبني إنساناً حسن السلوك والمعاملة مع غيره، والتي لا يمكن أن تستقيم دون قيم وأسس أخلاقية، محببة من ناحية، ورادعة من ناحية أخرى. ما أجمل أن يكون الإنسان صادقاً طيباً ناكراً لذاته المؤذية، مستعداً لعون أخيه، ناصحاً مجيباً لسؤال الناس!

٧- مجال التفاؤل الانساني بالحياة والاستعداد للتعامل والتعاون مع الآخر
ان حياة الإنسان لا يجب ان تكون أو تتحول الى جحيم يجري تعذيب النفس فيها. فلولا جهل الانسان وغبائه وجشعه وطمعه وغرائزه المتوحشة لما كان الإنسان مجبراً على قتل أو حرب أو احتيال أو نصب أو هيمنة. كما لم يكن بحاجة الى كآبة وحزن وتذمر وتشاؤم، هاجراً فرح الدنيا بتفاؤلها.
ان عليه ان يتذكر بأن الحياة لم تكن لتكون جميلة زاهية دون تنوع واختلاف بشرها، لوناً وسحنةً وافكاراً وميولاً وقدرات. بيد انه بحاجة الى فهم ذلك واستعداد للتعامل معه. فلا ينبغي لدين أن يفرق حد الاكراه والاقصاء والتغييب، ولا ينبغي لثقافة أن ترى في قيمها غير المشروعة ونتاجاتها غير المفيدة لبني البشر من حقوق مضافة أو شرعية هيمنة واستغلال وتعال.

خلاصة وختام:
أخلص مما طرحته من افكار في المقال إلى:

 ⁃ان التربية نشاط انساني واع وواجب.
 ⁃انها لا تقتصر على المجال التقليدي في زرع القيم الاخلاقية رغم أهميته.
 ⁃ان ندرك، نحن المؤسسات المختلفة من اسرية وحكومية وغيرها، ان التربية تشمل العقل والروح والنفس والبدن والوجدان والسلوك.
 ⁃ان التربية غاية الانسان في سعادته وعطائه، وأنه هو وسيلتها في تحقيق ذلك.
 ⁃ان اخطر اخطاء التربية ان تقتل في الانسان حريته وحتى تمرده الايجابي.
 ⁃ان من لا يقدر على محبة الآخرين، لن يشعر يوماً بطعم السعادة الحقيقية.

برلين، ٢١/٥/٢٠٢٢
calendar_month22/05/2022 06:15 pm