المتابع الحصيف لمسيرة المثقفين في العالم يدرك أن مرحلة الثمانينيات من القرن الماضي مثلت مرحلة تاريخية هامة كان للمثقفين دور كبير وحاسم فيها. إذ انتهى في ذلك الوقت حلم كبير وتوقعات لمستقبل جديد أسس له كبار فلاسفة الأنوار كحلم يعِد بحياة مثالية ومجتمع مثالي يضمن الحياة الحرة الكريمة للبشر، كما يضمن لهم السعادة .على أن يكون مجتمعاً يحكمه العقل الإنساني بفضل العمل والإبداع. فقد أفلتت فكرة المجتمع المثالي وانتهت مع نهاية الألفية الثانية ودخولنا إلى الألفية الثالثة عندما وضع حد لها عنوة وبقسوة. وهذا ما يمكن أن نسميه بنهاية الآيديولوجيات أو اليوتوبيات المرتبطة بنهاية ما بات يعرف بالدولة - الأمة. ويتجسد ذلك، في التناقض الحاد الحاصل بين مجال السلطة ومجال السياسة. ففي العالم الحديث والمعاصر،أي بعد انهيار الدولة - الأمة، تتجه السلطة الحاكمة نحو الأعلى، أي نحو عالم ما بعد الدولة - الأمة (المعولم)، في حين تتدحرج السياسة منحدرةً نحو الأسفل أي (المجال الوطني) وتبقى حبيسة الدول المحلية – الوطنية. وبهذا لم يعد من دور فاعل للمثقف ولم يعد قادراً على التأثير في السياسيين المحليين الذين يديرون دفة الحكم ،لأنَّ السلطة الحاكمة وما تملكه من قوة عسكرية وأمنية واقتصادية ليست بيده بل تتجاوزه وتتخطاه دون مواربة. 
 الجدير بالذكر أن فترة ما بعد عام 1992م ومع انتشار فكرة ما بعد الحداثة سار العديد من الفلاسفة والمفكرين حول العالم لنقد تلك المرحلة وذلك لأنها كانت مرحلة قامت باحتواء الثقافة الحقيقية وحوّلتها إلى ثقافة الحرية الفردية وثقافة الاستهلاك، لتعويض مجتمع ما بعد الحداثي. ففي المجتمع الذي أطلق عليه الفيلسوف والسوسيولوجي البولندي زيغمونت باومان تسمية المجتمع السائل، والذي يمكن أن نتلمس قوامه كمجتمع استهلاكي يمثل نموذج الاقتصاد النيوليبرالي، الذي ظهر في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية والذي أنتج ثلاثة أقطاب اقتصادية متفاوتة الأسلوب ومتباينة في المنظومة مثل منظومة الإتحاد السوفييتي السابق وشبيهاتها كألبانيا التي كان رئيس الحزب الشيوعي الألباني فيها أنور خليل خوجة، والصين الماوية أي الصين في عهد رئيسها ماو تسي تونغ ومنظومتها الإشتراكية التي تم إنجازها في القرن العشرين، ودولة الرعاية في الدول الصناعية المتطورة، وقطب آخر وهو دول عدم الانحياز التي أسسها رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو والرئيس المصري جمال عبد الناصر ، والرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو عام 1961 م كا أطلق على الحلف أيضا تسمية مشروع باندونغ أو العالم الثالث. تلك الحقبة اتسمت بتطور الرأسمالية العالمية حيث يندمج الفرد بفضل استهلاكه وقدرته الكبيرة على إشباع رغباته ومتطلباته في السوق.
في هذا السياق يصعب علينا اختزال تلك الفترة ببضع كلمات وذلك لكثافة الأحداث وصعوبة التوليف بينها بخاصة تجاه الديمقراطية والهوية والعولمة والسياسة والعنف. وفي تحديد الفرق الكبير بين الحداثة القوية الصلبة والحداثة الرخوة السائلة .
 فالجدل السياسي والفكري والثقافي يقضي بكون حالات لم تعرف من قبل حداثة متينة وقوية، لكنها الآن في صلب الحداثة الرخوة واللينة ، ويتوجب عليها أن تتقن السير في الأماكن الوعرة. لأن ما يجري في عالم اليوم، لا تحكمه لا اتفاقية وارسو (حول حق الأقليات في تقرير المصير) التي تم توقيعها في العام 1929 م، ولا اتفاقية ويستفاليا التي عقدت عام 1648م حول الدولة - الأمة (الوطنية)،لجهة أن الحدود السيادية لم تعد كما كانت عليه قبل المعاهدة، 
 إن ما يمر به العالم الآن هو أزمة الديمقراطية، وانكماش الثقة. معتقدين أن معظم قياديي العالم ليسوا فقط أغبياء وفاسدين، لكنهم أيضاً حمقى لأنهم لا يمتلكون الفعل الحقيقي لحل أزمات العالم المتفاقمة الذي بات يستلزم القوة لتتمكن من اتخاذ القرارات. وبالطبع، نحتاج السياسة، التي تعطي القدرة لتقرر ما تحتاجه الدول والشعوب. ومن كان عليهم أن يمارسوا السياسة وأدواتها المتعدّدة وأساليبها الخفية توجهوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، الذي نعتبره مجرد فخ، لأنه نظام أمني بامتياز. فقد بات الجميع يعتقد أنهم ينتمون إليه، لأنه يمنحهم السلطة في قبول هذا وحذف ذاك من قائمة الأصدقاء أو السلطة الحاكمة. في حين أنّ الحقيقة أقوى من الواقع الافتراضي، وأنّ الصداقة أبعد ما تكون ويمكن اختزالها بثواني ،لأنّ هناك قيمتين عظيمتين لطالما كان صعباً التوفيق بينهما بشكلٍ تام. هما الحرية والأمن. فإذا كنت جاداً وتريد الأمن، فعليك أن تتنازل بقدر معين من الحرية الممنوحة لك. وإذا كنت تريد الحرية، فعليك أن تتنازل بقدر معين من الأمن الذي تحتاجه. هذه المعضلة التي لا حل لها ستستمر إلى الأبد دون توقف. لذا فالصراع القائم الآن في العالم، يتمحور بشكلٍ أساسي حول علاقة الفرد بالمجتمع، ولم يعد الأمر يتعلق بنقص الأمن أو فقدانه، بل بنقص الحرية المنشودة. فالأمن توفره كل العدسات المحيطة بك من كل الجهات وفي كل الأوقات، وأحياناً كثيرة من حيث لا تعلم. وهذا ما يزيد علينا سؤالاً آخر على سؤال الهوية بعداً جديداً وهاماً وهو سؤال تبدل الهوية، من شيء تولد من داخله إلى مهمة خارجة عنه، والمهمة تكمن في أنه يتوجب على صنع مجتمع خاص بك ، مجتمع تنتمي إليه بحق وعن قناعة مطلقة وراسخة لا أن ينتمي إليك، كما هو حال مواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية. فأية علاقة تربط بين الفرد والمجتمع ومواقع التواصل الاجتماعي الافتراضية ؟ في حقيقة الأمر يعتبر الفرد جزء من المجتمع، ولا يستطيع الفكاك منه ولا تعويضه بأي كان حتى بشبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية أو عالم التقنية (العبودية الرقمية) الجديدة ، في حين أن الشبكات الاجتماعية التي تؤدي دوراً فاعلاً وإيجابياً هي جزءٌ من الفرد وتنتمي إليه.
calendar_month20/08/2022 01:07 pm