
في محاولة جادة لبناء دولة اجتماعية تسودها الديمقراطية ،عليها أن تتضمن جملة القرارات والقوانين والتشريعات الناظمة لتلك الدولة التي من مهامها الأساسية العناية بمصلحة مواطنيها أفراداً وجماعات دون تمييز ،على اختلاف انتماءاتهم الدينية والإثنية والسياسية، كما يقع على عاتق من يساهم في بناء الدولة الاجتماعية العمل من خلال منهج البناء الداخلي على تقليص الفوارق الطبقية الاجتماعية، وتوفير العدالة وحفظ الكرامة المادية والمعنوية لجميع المواطنين في إطار المساواة والعدل والحرية وتكافؤ الفرص .من هنا يمكن اعتبار الدولة الاجتماعية كيان كامل متكامل يعيش في قالب مؤسساتي عادل وديمقراطي، تنتفي فيه كل أشكال الريع وأنماطها، ويهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة بمختلف أبعادها واستطالاتها .والتي ترتكز على الإنسان أولاً وأخيراً. ومن ثم باقي مكونات الحياة على الأرض، لأنها الأس والرافعة المثلى للتطور والتنمية .
في هذا السياق تتمظهر أمامنا العديد من المفاهيم التي تخص الدولة الاجتماعية الديمقراطية وأهمها مفهوم الديمقراطية الاجتماعية التي شرحتها موسوعة (بريتانيكا) وعرّفتها على أنها تتبنى الضوابط والقوانين الحكومية الناظمة ،وبرامج الرعاية الاجتماعية الشاملة، وهي بشكلٍ أو بآخر بدلاً من ملكية الدولة لأدوات الانتاج ووسائلة .وغالباً ما يتم الخلط بين مصطلح الاشتراكية الديمقراطية والديمقراطية الاجتماعية، مع أننا ندرك تماماً أنَّ ما يعرف الاستخدام الحديث لمصطلح الديمقراطية الاجتماعية على أنه قفزة زائدة في تفعيل وتطوير سياسات الخدمات الاجتماعية أو الرفاهية. هذا التفسير الصريح يمكن استخدامه بشكل مرادف لنموذج دول شمال أوروبا، حيث يتمظهر الهدف النهائي بعيد المدى لحركة الديمقراطية الاجتماعية في تحقيق النظام الاشتراكي من خلال أدوات ووسائل الديمقراطية بشكل تدريجي.لكن هذا المصطلح بدأ بالتغير مع مرور الوقت بشكلٍ كبير نتيجة التبدلات المتسارعة في النظم الاقتصادية، فقد كان التداخل أكبر بكثير مع الاشتراكية، وهذا المفهوم تأثر بشكلٍ كبير بالإشتراكية الإصلاحية
لقد تغير تعريف المصطلح مع الوقت بشكل كبير، فقد كان له تداخل أكبر مع الاشتراكية بشكلٍ عام . وكان هذا المفهوم قد تأثر بكلٍ من الاشتراكية الإصلاحية التي قدّمها المحامي الألماني (فرديناند لاسال) وهو أحد مؤسسي مذهب الاشتراكية الألمانية، والاشتراكية الثورية الأممية البروليتارية وما قدمه الفيلسوف الألماني كارل ماركس والفيلسوف الإنكليزي فريدرك إنجلز حول الاشتراكية الثورية الأممية البروليتارية.
من هنا يمكننا القول أن الديمقراطية الاجتماعية بوصفها حركة سياسية عالمية لها أيديولوجيتها الخاصة، قد مرّت بمراحل عدة عبر مسيرتها التاريخية الطويلة. فقد بدأت في القرن التاسع عشر بصفتها ديمقراطية ماركسية منظمة ولها قوانينها وتشريعاتها، وتحولت الديموقراطية الاجتماعية، بحلول القرن العشرين، إلى حركة (إصلاحية منظمة). واندرجت ضمن المفاهيم المستخدمة في وقتنا الحالي. وتشير الديموقراطية الاجتماعية، بصفتها نظام سياسي له منهجه وأيديولوجيته، إلى حالة دعم الاقتصاد المختلط والتدابير الإصلاحية التحسينية التي تهدف إلى إفادة الطبقة العاملة في إطار الرأسمالية.
لذا كانت الديمقراطية الاجتماعية عبارة عن فلسفة سياسية واجتماعية واقتصادية تعيش داخل النظام الاشتراكي وتدعم الديمقراطية السياسية والاقتصادية. فقد وصف المفكرون والأكاديميون بأنه نظام سياسي يدعو إلى التدخلات الاقتصادية والاجتماعية لتدعيم وتعزيز العدالة الاجتماعية في إطار قوة ونظام حكم ديمقراطي ليبرالي، وهو اقتصاد مختلط ومتشابك لأنّه موجّه بالدرجة الأولى نحو الرأسمالية ، التي تتضمن الأعراف المستخدمة والبروتوكولات لتحقيق ذلك التزاماً وضابطاً لإيقاعها بالديمقراطية التشاركية والتمثيلية، واتخاذ كافة التدابير اللازمة لإعادة توزيع الدخل وتنظيم البنى الاقتصادية في المصلحة العامة .وأحكام الرعاية الاجتماعية والصحية وتوفير العدالة. بسبب الحكم طويل الأمد من قبل الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية خلال ما تم الإجماع عليه ما بعد الحرب وتأثيرها الكبير على السياسة الاجتماعية والاقتصادية في شمال وغرب أوروبا، وهذا كان واضحاً لا لبس فيه، فقد أصبحت الديمقراطية الاجتماعية مرتبطة بالنزعة الكينزية التي أسس بنيانها المفكر جون ماينارد كينز، وهي مدرسة للفكر الاقتصادي، والتي تطورت مع مرور الزمن متأثرةً إلى حد كبير بنيكولاس كالدور، وجوان روبنسون، وميشال كاليكي وبول ديفيدسون والمؤرخ سكيدلسكي. هذه النظرية أو بالأحرى النزعة الاقتصادية تعتبر نهج غير تقليدي في المجال الاقتصادي. ليس هذا فحسب بل تداخلت مع النموذج الاجتماعي الليبرالي والنموذج الاسكندنافي ودول الرفاهية داخل المؤسسات والهيئات والدوائر السياسية في أواخر القرن العشرين .
إنّ ما سبق يؤكد أنّ الدولة الاجتماعية شرط أساسي للديمقراطية، وأنّ الديموقراطية وحدها لا تكفي لتحقيق الدولة الاجتماعية، بل عليها أن تنهل وتتقوى بالسياسات الاجتماعية المطلوب تحقيق أهدافها، والتي تعمل على تقليص الفوارق الاجتماعية والطبقية وتحمي حقوق المواطنين أفراداً وجماعات، أي تحمي بكل ما تملك من إمكانيات الحقوق السياسية والاجتماعية والبيئية والثقافية والاقتصادية للجميع دون تمييز .
كما يمكن للدولة أن تكون دولة اجتماعية مثلما يمكن ان تكون (فردانية) بالمعنى السياسي السائد .وأنّ النموذج الاجتماعي الأكثر سيطوةً وقوةً يوجد في المجتمعات الاشتراكية التي تطورت فيما بعد . في اعطائها الأولوية والأهمية الكبيرة للأمن على الحرية فإنّ العلاقات السياسية بين الأفراد تصطبغ بصبغة ذات طابع تضامني وتشاركي إلى درجة قد يصبح معها الفرد في الدولة تابعاً لمجموع مكونات المجتمع داخهل الدولة.وفي المجتمعات الديموقراطية الأوروبية نجد أنّ طابع التوازن بين الأمن والحرية طاغياً .لأنّ الحرية الفردية هي الأساس حسب الكثيرين، لكنها عندما تعجز عن الوفاء بالحقوق والواجبات وتأمين حاجيات المواطن تتدخل الدولة ضمن القوانين الناظمة للتعويض عن النقص .وفي حقيقة الأمر فإنّ الدولة تمتلك من القدرات الكبيرة والموارد الهائلة ما يمكنها من ذلك .ونجاح هذا النموذج مرده بالدرجة الأولى إلى تمكن هذه الدول على توفير الشروط اللازمة والمحفزة للحرية. أما النموذج الأكثر فردانية وخصوصية بحيث تكون الحرية بالدرجة الأولى هي المحدّدة للعلاقات بين المواطنين من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،فعلى سبيل المثال : فإنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي من تقوم بوظيفة الدولة التي تضبط الإيقاع العام في العالم لامتلاكها القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، أما نحن العرب فيبدو أننا نعيش حالةً من التداخل يجعلنا بحاجة ماسة جداً لخلق التوازنات الاجتماعية داخل الدولة مع أنها عاجزة عن تحقيق هذا المطلب في الوقت الراهن بالنظر إلى الخلل الكبير في بنية الحكم وفقدان العمل بالقوانين والتشريعات الناظمة ونقص الموارد الإدارية والكفاءات من جهة .وهيمنة الليبرالية بكل صفاتها واستحقاقاتها من جهة اخرى .
من هنا نجد لزاماً على الدولة الاجتماعية توفير الأمن الاجتماعي والاقتصادي والحماية لجميع المواطنين وتقليص كل ما من شأنه أن يؤثر على البيئة بشكلٍ سلبي وخطير .
إنّ سطوة المال وهيمنته الكبيرة أو التطرف الديني على السياسة يتناقض بشكلٍ حاد مع الدولة الاجتماعية.وأن مشروع بناء الدولة الاجتماعية يرتكز أيضاً على الإرادة السياسية وتوفير قيادات وطنية جديرة بقيادة الدولة. لقد أنتج فقدان الهياكل السياسية وركائزها قادة سياسيين عرب افتقدوا للروح الوطنية والإرادة السياسية القوية الحرّة التي تعمل لصالح جميع المواطنين والصالح العام ، وكل ما تسعى إليه بهدف تطوير بلداننا العربية لتحتل مكاناً مرموقاً بين دول العالم وشعوبها . وللأسف الشديد فقد كان القائد السياسي يقود العملية السياسية في بلده ضمن الأطر الاجتماعية ويصنع القرارات المصيرية الاستراتيجية التي تستحضر المعادلات الداخلية والخارجية، وكان له من القدرة على إنتاج المواقف القوية والصارمة الصائبة خاصة في الأزمات والجائحات، أصبح الآن عقيماً غير قادر على العطاء لأنه أيضاً عمل بشكلٍ خطير على قمع المثقفين الوطنيين وهمشهم، وأفرغ محتوى من بقي يعمل معهم كمثقف سلطة يؤتمر بأوامر الحكام والطغاة .
أخيراً : لا بدّ من إيجاد الوسائل والأدوات التي يمكن استخدامها لمواجهة الأزمات والمخاطر التي تتعرّض لها بلداننا العربية في الوقت الحاضر والمستقبل. ولا بدّ من إنعاش دور الديمقراطية والقيام بمحاسبة من يخل بأمن المواطن ولقمة عيشه والمس بكرامته ،وتحقيق الحماية الاجتماعية والأمن الغذائي، وتفعيل المؤسسات الانتاجية وإنعاش الاقتصاد والتجارة.