في حادثةٍ هي الأعنف من نوعها، تعرّضت ليبيا إلى سيول جارفة ضربت مدينة درنة ومدناً أخرى، أسفرت عن خسائر فادحة بالأموال والأرواح، فقد وصل عدد الضحايا المهول إلى الآلاف، كما وصل عدد المفقودين إلى نحو عشرة آلاف شخص. فقد خلّفت (عاصفة دانيال Daniel storm) عدد كبير من القتلى والمفقودين في أكبر كارثة من نوعها تشهدها ليبيا منذ أربعين عاماً، وما زالت عمليات الانقاذ جارية دون توقف، وكانت فرق الانقاذ على الرغم من صعوبة الحركة والتنقل يسعون من أجل الوصول إلى المناطق المنكوبة التي غمرتها مياه الفيضانات. لذا فقد أعلنت الحكومة المعنية من قبل مجلس النواب الليبي قد أصدرت قراراً بتنكيس الأعلام بكافة مرافق الدولة وإعلان الحداد لثلاثة ايام. كما أعلنت السلطات الليبية في المناطق الشرقية حالة الطوارئ القصوى، والتي شملت إيقاف الدراسة في جميع المؤسسات التعليمية العامة والخاصة من جامعات ومعاهد ومدارس وإغلاق المحال التجارية وحظر تجوال، وذلك لمواجهة أي تأثيرات جديدة وخطيرة للعاصفة المتوسطية (دانيال). كما تم تحويل المدارس لاستقبال متضرري الإعصار في مدينتي درنة والأبيار خاصة مدينة درنة بعدما انهار السد الذي كان يحميها من السيول المنحدرة من الجبال المحيطة بها.
في إطار تلك الكوارث هبّت الدول العربية ومعها العديد من دول العالم لنجدة ليبيا وتقديم الدعم لضحايا الإعصار (دانيال)، وضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب المملكة المغربية، وهذ العمل يدل دلالةً كبيرةً على أنَّ العالم لديه إحساس واهتمام كبيرين بأهمية التعاون والعمل الجماعي في مواجهة الكوارث والجائحات والمحن .
في حقيقة الأمر ونتيجة تفاقم الظروف المناخية وتداعياتها الخطيرة، نجد أنَّ هذا لا يكفي على الرغم من أهميته الكبيرة، كون العالم يواجه تهديداً وجودياً خطيراً بسبب ارتفاع درجات الحرارة، والانبعاثات الكربونية، والاحترار السريع لكوكبنا الأرضي. الذي يتسبب بكوارث ومحن وجائحات بيئية باتت تضرب مختلف أصقاع المعمورة، وتؤدي إلى ارتفاعٍ شديد في درجات الحرارة، وأعاصير وزلازل وفيضانات وحرائق، وأخذت تداعياتها الخطيرة تخرج عن السيطرة في العديد من الدول، وتتسبب بدمار هائل غير مسبوق وضحايا بمئات الآلاف، وخسائر مادية هائلة تصل إلى مليارات الدولارات.
كما أنّ الزلزال الخطير في المغرب أدى إلى أكثر من 2000 ضحية، وأدى أيضاً إلى محو عدة قرى بأكملها، إضافةً إلى ما جرى في ليبيا من فيضانات وأعاصير مدمرة، بعد أن ضرب العديد من المدن والقرى في اليونان، وأغرق عدد كبير من القرى، وتسبب بفياضانات وسيول عارمة، كما شهدنا مثل ذلك في جنوب الصين وهونغ كونغ، غير غافلين ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية والجزائر وتونس، والقارة الأوروبية من حرائق اجتاحت مساحات واسعة في تلك البلدان. إلى تدمير مساحاتٍ واسعة من الغابات، وفي هذا السياق نجد أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية قد أعلنت أنها شهدت ثلاث وعشرون حدثاً مناخياً في العام الحالي 2023 م، تسببت بأضرار تزيد على 57.6 مليار دولار أمريكي ومقتل أكثر من 260 شخصاً حسب الاحصائيات الأولية المتوفرة، فهذا كله يستدعي من العالم أجمع إعادة النظر من جديد بكل ممارساته ونهجه تجاه البيئة، وتطبيق القرارات التي صدرت عن المؤتمرات الدولية للمناخ COP وهو منتدى دولي لمناقشة الإجراءات المناخية القائمة على الحقوق، واللازمة لتمكين الدول بشكلٍ جماعي من تحقيق هدف الحفاظ على ارتفاع درجات الحرارة في العالم في مستوى 1.5 درجة مئوية، بما يتماشى مع "اتفاقية باريس". COP وهو الاسم المختصر لمؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ في العالم، والذي يمثل الهيئة العليا لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول تغير المناخ، ويتألف من عدد كبير من ممثلين عن كل دولة وقعت على اتفاق باريس ويجتمعون كل عام للبحث عن حلول. وعدم التهرب من الالتزامات التي تم الاتفاق عليها، وإلا فإن العالم بأسره مقبل على انهيار مناخي حتمي .وقد سبق أن تم التحذير مراراً من عواقب التغير المناخي والاحترار، والانبعاثات الكربونية ومخاطرها على المناخ والبيئة، فقد حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، من أنَّ (المناخ ينفجر بوتيرة أسرع من قدرتنا على الاحتمال والمواجهة مع ظواهر جوية قصوى تضرب جميع أنحاء الأرض).
الجدير بالذكر أنه منذ فترة طويلة كان العلماء يحذّرون من تداعيات الاعتماد على الوقود الأحفوري الذي يساهم بشكلٍ خطير في تغيير المناخ، من أجل خفض الانبعاثات الكربونية الهائلة المسببة للاحترارالمناخي، والوصول بالسرعة الكلية إلى ما يعرف بــ (الحياد الكربوني)، أو بــ (صافي صفر انبعاثات كربونية) في النصف الثاني من القرن الحالي. وذلك من خلال الالتزام الدقيق والجاد بتنفيذ اتفاقية باريس COP لمواجهة تغير المناخ الموقعة عام 2015م . وكان اتفاق باريس للمناخ يهدف إلى الحد من ارتفاع متوسط درجة حرارة سطح الكرة الأرضية، تمت الموافقة عليه في شهر كانون الأول عام 2015م، وجرى اعتماده بعد انتهاء معاهدة المناخ الدولية "بروتوكول كيوتو" (Kyoto Protocol) في عام 2020. ولتحقيق هذا الهدف، تعهدت الدول التي وقعت على الاتفاق بتقليل تأثير النشاط البشري الخطير على المناخ، وهي التعهدات التي من المفترض أن تصبح أكثر طموحاً بمرور الوقت. حيث يُعدُّ ثاني أكسيد الكربون هو "غاز الاحتباس الحراري" الرئيسي المسؤول عن ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي لكوكبنا، وهو ينبعث من حرق الوقود الأحفوري مثل الفحم الأحفوري الحجري والغاز الطبيعي والديزل والكيروسين والبنزين. لكنْ هناك غازات أخرى مثل غاز الميثان، الذي ينتج عن تربية الأبقار والمواشي والنفايات البشرية، وهو أقوى بكثير من ثاني أكسيد الكربون، بيد أنه يبقى في الغلاف الجوي لمدةٍ أقصر. إنّ معظم المؤتمرات تستهدف توضيح قواعد ميثاق المناخ العالمي الجديد، الذي يطمح إلى اتخاذ إجراءات عملية بشأن مجموعة من القضايا المناخية، منها: الحد بشكل عاجل من انبعاثات الاحتباس الحراري، والتكيف مع الآثار الحتمية لتغيّر المناخ ،وبناء المرونة اللازمة، والوفاء بالتزامات تمويل العمل المناخيّ من الدول المتقدمة للبلدان النامية. وترجع بداية مثل هذه المؤتمرات إلى عام 1992 م عندما اجتمع قادة العالم في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية فيما عُرِفَت بقمة الأرض، التي استهدفت مناقشة قضايا المناخ والخروج بخطة عمل دولية لتعامل مع قضايا البيئة. وجرت قمة الأرض أيضا بمناسبة مرور 20 عاما على ما قد يكون أول اجتماع للبشر لمناقشة قضايا المناخ، وذلك في العاصمة السويدية ستوكهولم عام 1972. وكانت قمة ريو دي جانيرو البذرة الأولى لانطلاق مؤتمرات الأطراف "سي أو بي" (COP) المعنية بالتغيرات المناخية، وانعقادها بشكل سنوي منذ ذلك الوقت، وصولا إلى النسخة الـ27 التي انطلقت هذا العام في شرم الشيخ بشبه جزيرة سيناء المصرية. الواضح تماماً إن الدول الصناعية الكبرى هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن انبعاثات الغازات المسببة للتغير المناخي والاحترار المناخي، بخاصة جمهورية الصين الشعبية، والولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، والهند، واليابان، وروسيا الاتحادية، وفرنسا، وإيطاليا، وبريطانيا، مدعوة قبل غيرها للالتزام بتعهداتها على الفور، بخاصة أنها دول معرَّضة كغيرها من الدول للكوارث المناخية وتداعياتها البشرية والمادية الخطيرة، وذلك قبل أن تتفاقم العواقب السيئة وتصبح خارجة عن السيطرة البشرية، وتتحول كرتنا الأرضية إلى مكان غير صالح لسكنى البشر.