تبدأ حياة الإنسان على هذهِ الأرض منذُ ولاَدَّتِهِ، وتستمر عجلة الأيام بالدوران، ويمضي بنا الزمان ولو دامت الدنيا لأحد ما وصلت إلينا؛ فأرحامٌ تدفع، وأرضٌ تبلع!؛ ونحن خُلفاء على ظهر هذهِ البسيطة لإعمارها وفق منهج الله جل جلاله، في مسيرة الحياة القصيرة من المهد حتى ينتهي بالإنسان الأجل، ويُدخل اللحد؛ ويتصارع البعض على دُنيا الزوال، والغرور، والعبُور!؛ والنفس قد تبكي على الدُنيا، رغم علمِها بأن السلامةَ فيها تركُ ما فيها؛ فلا دار للمرء بعد الموتِ يسكُنها إلا التي كان قبل الموتِ بانيِها، فإن بناها بخير طاب مسكنهُ، وإن بناها بشرٍ خَابْ بانيها "؛ ومن المعلوم عند غالبية المسلمين قول الحق سبحانه، وتعالى: "منها خلقناهم، وفيها نُعيدكم، ومنها نُخرجكم تارةً أُخرى"؛؛ ولكن أغلب الناس تركن إلى الحياة الدنيا، وتنسى الأخرة، فتضيع بين دهاليز الفتن!. وحالهُم في الدنيا مثل طعامٍ فاسدٍ لا يسمنُ ولا يغنى من جُوع، وقد أصَابهُ العفن، داخل السَكَنْ. وبعض الناس تظُن أنها سوف تُخَلد في هذه الأرض، فتركن، وتطمئن إليها، وهي ليست لِحيٍ سَكنًا فلا تُبقى، ولا تذر، فهي ليست لأحدٍ موطِنًا، ولا وطنًا، ولا سكنًا !.
ولقد ذكر لنا القرآن الكريم الكثير من القصص التي تحمل لنا الموعظة الحسنة، وتحذرنا من الوقوع فيما، وقع فيه من هم قبلنا من الأمور التي قد تجعل العابد الزاهد عاصيًا مطرودًا من رحمة الله "فتزل قدمٌ بعد ثُبوتِها"؛ ولقد قص علينا القرآن الكريم قصة: " بلعام بن باعوراء" الذي كان عبدًا صالحًا وحِّبرًا من أحبار بني إسرائيل، وكان مستجاب الدعوة، ولكنه اختار طريق الشيطان فأغواه، يقول تعالى: "واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ""؛ ولقد ذكر المفسرون أن بلعام بن باعوراء كان حبراً من أحبار بنى اسرائيل فى زمن سيدنا موسى عليه السلام وإنه قد تلقى علم التوراة على يدى نبي الله موسى عليه السلام، حتى صار من كبار العباد، ومستجاب الدعوة، وكان يعرف اسم الله تعالى الأعظم، الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سُئِلَ أعطى؛ يقول الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنه، كيف تحول بلعام من الإيمان إلى الكفر؛ فقال: إن نبي الله موسى عليه السلام قد أرسل بلعام ابن باعوراء إلى أرض كنعان من الشام ليعلمهم ويدعوهم إلى الله، فقال أهلها له إن يخشون أن يغزوهم نبي الله موسى ويحتل أرضهم بني إسرائيل، وطلبوا منه أن يدعو على نبي الله موسى، ومن معه، فرفض في البداية وقال لهم: هذا نبي وإن فعلت معه ما تريدون ذهبت دنياي، وآخرتي، قالوا لابد أن تفعل، وأغروه بالأموال، والمناصب، حتى اِفتُتِن؛؛ وركب باعوراء حماره ليذهب إلى جبل يدعوا فيه على بني إسرائيل فكانت حماره تمتنع عن السير فيضربها، وهكذا عدة مرات، ولما آلمها أنطقها الله فقالت له إنك تسوقني، والملائكة يردونني، ويلك كف عني، ويحك أتذهب إلى مناوأة نبيّ اللّه الذي علمك الخ..؛ فترجل عنها ونظر إلى بني إسرائيل حتى إذا أشرف عليهم صار يدعو باسم اللّه الأعظم أن يخذلهم، فرد الله دعاؤه إلى قومه، وصار كلما دعا على قوم موسى بشيء أوقعه اللّه على قومه ولا يدعو لقومه بشيء إلا صرفه اللّه إلى قوم موسى، وذلك أنه صار ينطق بغير اختياره؛ فقال له قومه: ويلك يا بلعام إنما تدعو لهم، وعلينا فقال هذا مما لا أملكه، فقد غلبني اللّه عليه، ولم يزل يدعو لقومه، وعلى بني إسرائيل، وهو يجاب بالعكس حتى اندلع لسانه، وقال لهم ذهبت دنياي، وآخرتي، ولم يبق لكم إلا المكر والحيل. ولم يكتف بلعام بهذا بل بين لهم الحيلة التي سيستخدمونها ليهلكوا بني إسرائيل، فقال لهم: "جمّلوا نساءكم واتركوهن بين معسكر بني إسرائيل وأوصوهن أن لا يمنعن أحدًا من الزنى بهنّ فإن زنى واحد منهم بواحدة منكم كفيتموهم"!؛ ففعلوا ذلك وطافت نساؤهم بين عساكر بني إسرائيل فمرت امرأة تسمى "كستى بنت صور" من أجمل النساء على زمزي بن شلهوم من عظماء بني إسرائيل فاقتادها، فرآه نبي الله موسى عليه السلام فقال هي حرام عليك لا تقربها، فلم ينته وأدخلها قبته، وضاجعها، فزنا بها!!؛؛ فَغضب الله عليهم، وأرسل اللّه الطاعون على قوم نبي الله موسى، و كان صحاح بن عيراد صاحب أمره غائبا فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني إسرائيل وكان ذا قوة وبطش فقصد الخيمة التي فيها زمري فرآه مضاجع المرأة فَطعنهُ بحربة بيده فقتله، وقال اللهم هذا فعلنا بمن عصاك فأرنا فعلك في عدونا، واكشف عنا ما ابتلينا به بسببه، فرفع اللّه عنهم الطاعون، وقد بلغ من مات من حين ضاجعها إلى زمن قتلهما سبعين ألفا من بني إسرائيل!؛؛ وهكذا هو حال كل من أخلد إلى الأرض، وركن إليها، وباع الأخرة الباقية، بالدنيا الفانية، واتبع هواه، وظل، وزل، واختل، وظلم، فالكثير من الناس إلا من رحم الله، قد ركن إلى الدنيا، وملذاتها الزائفة الزائلة، وصار يلهث في الجري ورائها!؛ كمن يجرى وراء السراب، يحسبهُ الظمآنُ ماءً!. وتتسارع دقاتُ قلبه، ويندلِق لسانهُ ويضيق نفسه، لأنهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ أي: إلى الشهوات السفلية، والمقاصد الدنيوية؛ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وترك طاعة مولاه، فَمَثَلُهُ في شدة حرصه على الدنيا، وانقطاع قلبه إليها، كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي: لا يزال لاهثًا في كل حال، وهذا لا يزال حريصًا، حِرصًا قاطعًا قلبه، لا يسد فاقته شيء من الدنيا!؛ "ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا" بعد أن ساقها اللّه إليهم، فلم ينقادوا لها، بل كذبوا بها وردوها، لهوانهم على اللّه، واتباعهم لأهوائهم، بغير هدى من اللّه؛ فعلينا أن نأخذ الموعظة، والحكمة من القصص القرآني لآن فيه العبرة، والموعظة، لآننا يومًا ما سوف نرحل عن الدنيا، وما العيشُ إلا عيشُ الأخرة.
الباحث، والكاتب، والمحاضر الجامعي، المفكر العربي، والمحلل السياسي
الكاتب الأديب الأستاذ الدكتور/ جمال عبد الناصر محمد عبد الله أبو نحل
عضو نقابة اتحاد كُتاب وأدباء مصر، رئيس المركز القومي لعلماء فلسـطين
رئيس مجلس إدارة الهيئة الفلسطينية للاجئين، عضو مؤسس في اتحاد المدربين العرب
عضو الاتحاد الدولي للصحافة الإلكترونية
dr.jamalnahel@gmail.com