بقلم / ناجي العلي ...


في رحلة العذاب الفلسطيني الممتدة منذ النكبة وحتى يومنا هذا، لم تسلم مخيماتنا من ويلات الانقسام والاقتتال الداخلي ، فمن طولكرم وجنين في الضفة الغربية، إلى غزة المحاصرة، إلى نهر البارد في لبنان، وصولاً إلى مخيم اليرموك في سوريا؛ جميعها محطات دامية تحولت فيها المخيمات من رموز صمود إلى ساحات نزيف داخلي استنزف دماءنا الطاهرة، وشتت أبناءنا، وترك جراحاً لم تندمل حتى اليوم.

لقد أثبتت هذه التجارب المريرة أن استباحة الدم الفلسطيني تحت شعارات حزبية أو فصائلية لم تجلب لشعبنا إلا الخسارة والانكسار، وأن الانحياز للمشاريع الضيقة كان ولا يزال خنجراً في خاصرة القضية الوطنية ومن غير المقبول أن تتكرر هذه المآسي في أي من مخيماتنا، لأن دماء شعبنا أطهر وأقدس من أن تتحول إلى أداة في صراع داخلي او اجندات خارجية تخدم أعداءنا.

من هنا، فإننا نوجّه نداءً صادقاً إلى حركتي حماس والجهاد الإسلامي والكل الفلسطيني : كفى تشتتاً وتناحراً داخلياً، ولتكن فلسطين هي البوصلة الوحيدة التي لا تحيد، والشعب هو المرجعية العليا التي لا تُخالف ، المطلوب اليوم قبل غد تغليب المصلحة الوطنية الجامعة فوق أي اعتبارات حزبية، وضبط السلاح بحيث يكون في مواجهة الاحتلال فقط ، لا في مواجهة أبناء شعبنا ، إن أي انحياز لحسابات فئوية لم ولن يخدم سوى الاحتلال، الذي لطالما استثمر في خلافاتنا الداخلية لتكريس انقسامنا وإضعاف نهجنا الوطني .

كما تقع مسؤولية تاريخية على عاتق منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا، وعلى الفصائل كافة المنضوية وغير المنضوية تحت لوائها، أن ترتقي إلى مستوى التحدي والظروف الصعبة التي تمر بها قضيتنا وشعبنا الفلسطيني في مخيمات الشتات والحرمان ، فالمخيمات الفلسطينية في لبنان وسوريا لم تُخلق لتكون "بؤراً أمنية"، بل هي محطات صمود وأمل، وهي رمز النكبة ورمز حق العودة ، أبناء هذه المخيمات يستحقون الرعاية والدعم، وتأمين مقومات الحياة الكريمة، لا المزيد من التهميش والوصم والضغوط ، إن رفع المعاناة عن المخيمات ليس ترفاً سياسياً بل واجب وطني وأخلاقي، حتى تبقى هذه المخيمات حصناً للهوية الفلسطينية لا ورقة ضغط في صراعات محلية أو إقليمية.

لقد أثبتت السنوات أن تغليب المصلحة الوطنية الجامعة وحده القادر على حماية قضيتنا من التلاشي، وأن أي فصيل يضع حساباته الخاصة فوق حسابات الوطن إنما يساهم بوعي أو بغير وعي في تصفية قضيتنا. 

فلسطين لا تحتاج إلى شعارات إضافية، ولا إلى بيانات إعلامية تُخدّر الناس ولا استعراضات ، بل تحتاج إلى أفعال مسؤولة، ووحدة وطنية صادقة، وبرنامج نضالي جامع يقطع الطريق على كل المؤامرات.

فالمطلوب من الجميع توحيد الصف والكلمة واحترام سيادة لبنان الذي يرزخ تحت وطأة القرارات الدولية ، التزاما بما تم الاتفاق بين الرئيسين الفلسطيني واللبناني من اجل حماية شعبنا ومخيماته ، كي يبقى لبنان كما عاهدناه دولة مضيفة تحترم القضية الفلسطينية وتدافع عنها ، مع التأكيد على هوية المخيمات الفلسطينية من حيث التوطين والتهجير ، والبدء الفعلي بتمرير القرارات التي تعطي الحق للانسان الفلسطيني العيش بكرامة لتدعم صموده حتى تحقيق حلم العودة والدولة المستقلة .

وأخيرا نؤكد اننا أمام مفترق خطير: إما أن نتعلم من تجارب طولكرم وجنين وغزة ونهر البارد واليرموك ونرتقي إلى مستوى الدماء التي سقطت، أو نعيد إنتاج الأخطاء ذاتها ونسلّم قضيتنا على طبق من ذهب لأعدائنا. التاريخ لا يرحم، والشعب لا يغفر، وكل يد تُلوّث دماء الفلسطينيين ستسقط مهما رفعت من شعارات، ومهما تلونت بالوطنية الزائفة.

آن الأوان أن يكون الصوت واحداً: لا سلاح في وجه الفلسطيني، ولا مشروع يعلو على مشروع التحرير، ولا ولاء إلا لفلسطين. ومن يصرّ على تغليب حزبه على وطنه، ومصالحه على دماء شعبه، فإنه يضع نفسه طوعاً في خانة الخيانة، ولن يجد له موطئ قدم في سجل الشرف والبطولة.

فالوطن أكبر من الفصائل، والقدس أسمى من أي حسابات ضيقة، ودماء الشهداء أقدس من أن تُستباح باسم السياسة أو العصبية ومن لم يتعظ من تاريخنا القريب، فلن يكون إلا وقوداً لمحرقة جديدة، وسيسقط اسمه في مزبلة التاريخ، بينما يظل اسم فلسطين عالياً في السماء، خالداً بدماء الشهداء وعذابات الاسرى وصمود الأحرار .
calendar_month02/09/2025 07:14 pm