
حفل المشهد السياسي العراقي في الآونة الأخير بحالةٍ من الاحباط نتيجة تصاعد الاحتقان والرفض الشعبي العارم نتيجة الانتخابات البرلمانية التي جرت .فقد شهدت شوارع العراق أزمة حادة بعد نزول أتباع الفصائل المسلحة إلى الشوارع والساحات العامة للتظاهر.
فقد كان ما شهدته العاصمة العراقية بغداد، ومحافظة البصرة، وواسط، تظاهرات عارمة لأتباع الفصائل المسلحة، احتجاجاً على نتائج الانتخابات ورفضاً لها ، التي مُنيت فيها تلك المجموعات بخسارة فادحة. فقد حصل تحالف الفتح (المظلة السياسية للأجنحة المسلحة) على 16 مقعداً فقط، بعد أن كان قد حصل في الدورة الماضية عام 2018 م على 48 مقعداً .
هذه الانتخابات دعت المراقبون والمحللون السياسيون يرون أنَّ هناك ثلاث سيناريوهات محتملة لحل الأزمة الحالية، وضمان عدم الانزلاق إلى أتون الاقتتال الداخلي، في ظل تلويح العديد من الجماعات المسلحة بذلك.لذا لم تحقق الانتخابات العراقية، التي جرت يوم 10 / 10/ 2021 م ما كان مأمولاً منها، أي التغيير المطلوب للانتقال بالعراق إلى مسارٍ جديد يختلف عن المسار الذي كرسه الاحتلال الأمريكي، والقائم على المحاصصة الطائفية التي كلفت العراق والعراقيين الكثير من الخسائر البشرية والمادية وكثير من القهر والظلم ولفقر والحرمان ،وأوقعته لسنوات عديدة في براثن الإرهاب والفاسدين والمفسدين ،كما أوقعته في الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية ، وقوَّضت بنيته الاجتماعية والاقتصادية، وأدخلته في غياهب الفساد ونهب المال العام والفوضى العارمة ، وكادت تقضي على وحدته الترابية ووحدة سيادته.
لقد كان الإحباط مسيطراً قبل بدء الانتخابات وبعدها .ولعل من الأسباب الأساسية التي أدت إلى هذا الواقع الصعب والمرير ،هو استنكاف المواطن العراقي عن القيام بدوره في المشاركة الانتخابية. لاعتقاده مسبقاً أنَّ صوته سيذهب أدراج الرياح، إذ إن عزوف أكثر من 60% من العراقيين عن الإدلاء بأصواتهم، اعتقاداً منهم أن لا أمل في التغيير أدى إلى استمرار الوضع الصعب على حاله. ومع ذلك لا يمكن إلا الإقرار بأن الانتخابات البرلمانية العراقية قد جرت بسلاسة ودون أي صراع مسلح ،أو أي عمل تفجيري. وكانت نزيهة إلى حدٍ كبير باعتراف اللجنة العليا للانتخابات والمراقبين الأوروبيين وغيرهم ،والإعلاميين الذين واكبوا العملية الانتخابية لحظةً بلحظة في مختلف المحافظات. عدا أنها أفرزت حالة سياسية جديدة جراء فقدان الأحزاب والقوى والكتل السياسية التي هيمنت على الساحة طوال السنوات الماضية أغلبيتها البرلمانية لم تكن تمارس دورها على أكمل وجه حسب عدد كبير من وسائل الإعلام العراقية والعربية والعالمية ،وأفقدتها بالتالي القدرة على الإمساك بالقرار التشريعي، بعدما فاز التيار الصدري بثلاث وسبعين مقعداً، وأصبح بالتالي قادراً على تشكيل الحكومة الجديدة، في حين تراجع (تحالف الفتح) المحسوب على ميليشيات )الحشد الشعبي( كما أسلفنا ،وغيره إلى مراكز خلفية، ما أدى بهذا التحالف إلى رفض النتائج واتهام رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بتدبير (مؤامرة) لاستهدافه.
لم يقف الأمر عند هذا الحد؛بل وصلت الاحتجاجات إلى أن يقوم (تحالف الفتح) (المظلة السياسية للأجنحة المسلحة) على تجييش الشارع العراقي في أكثر من منطقة للاحتجاج على نتائج الانتخابات، والتهديد بشكلٍ مباشر بالتصعيد إذا لم يتم تعديل النتائج باعتبارها (مزورة( وغير قانونية .
صحيح أن الخلاف في الرأي حقٌ ومشروع، والاعتراض على النتائج النهائية مشروع أيضاً، لكن في إطار القوانين والتشريعات الناظمة، ومن خلال الطعن بالنتائج أمام المفوضية العليا للانتخابات ،ليتسنى لها التحقق منها ومن صحتها ،وتحديد مدى خطورتها على النتاج الأولية قبل المصادقة عليها رسمياً من قبل المحكمة الاتحادية العليا.
بخاصة وأنَّ هناك أصوات ارتفعت داعية إلى إعادة الانتخابات من جديد على أسس وقواعد جديدة ، لكن ذلك قد يأخذ البلاد إلى خيارات خطِرة لا تُحمد عقباها ، لأنَّ مثل هذه الدعوة لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال توافق سياسي عام ، وهو أمر مستحيل قد يدخل العراق في نفق مظلم، يترافق مع صراعات سياسية وعسكرية تمتد إلى صراعات دينية وطائفية ومذهبية وليست حزبية فقط .وربما يقود إلى اقتتال دموي لا جدوى منه، بين من فاز في الانتخابات ومن خسرها.
لذلك، فإن الغيورين على المصلحة الوطنية وعلى العراق ومواطنيه ومقدراته ، لا يجدون حرجاً في إعادة فرز الأصوات يدوياً وتحت إشراف دولي لتأكيد النتائج وإعلانها رسمياً وإغلاق كل الأفواه التي شككت ورفضت نتائج الانتخابات والقائمين عليها بالتزوير .إذ لا بد في نهاية المطاف من احترام إرادة الشعب العراقي بكل مكوناته والعملية السياسية والدستورية والمسار السلمي، لذلك دعا الرئيس العراقي بُرهم صالح إلى تغليب لغة الحوار الهادئ البنّاء، وتقديم مصالح البلد العليا، والانطلاق بشكلٍ جدي نحو تلبية الاستحقاقات ورغبات الشعب وتطلعاته.
إن العمل على تحريض الشارع هو شكل من أشكال التمرد على الإرادة الشعبية وتجاوز القوانين والتشريعات الناظمة ، وتهديد للسلم الأهلي والحياة الحرة الكريمة للمواطنين .