
الإبداع الفني لياقة تأملية ، ولياقة خيالية ، للتدريب فيه إسهام كبير ، وللموهبة دور عظيم . وهو نتاج تفاعل ثنائي للدربة والموهبة ، هكذا تجد الوعي الفني وعيا سائحا في أجواء الآداب والفنون ، فالمبدع يرمق بطرف خفي ليتوارى عنه في أجوائه الحالمة، ليصنع له صورة جديدة تبرز ما خفي على الوعي المقيّد في يقظته ، هكذا يتحول الحلم في مفهومه الأدبي إلى مصدر عطاء لا صورة معادة لماضٍ بالٍ ، انه حالة انكشاف وكشف بمعناه الدقيق ، كشف واستجلاء لما خفي عن الوعي الطبيعي ، وانكشاف عما هو مستور خلف الايدولوجيا . تلك الايدولوجيا التي غالبا ما كانت حجابا في وجه الحقيقة ، لا يغشي الواقع فحسب ، إنما يضبب الوعي ، وهذه الضبابية هي التي تجعل من تبدل حالة الوعي لخيانة الايدولوجيا ، ويقف الوعي الفني ببعده الإنساني مواجها لتحجرها وتقوقعها . لذا فالظاهرة الإبداعية ترتبط بحالة متغيرة للوعي، في حين تتعدد الحالات المتغيرة للوعي وتتنوع بحيث تشتمل على حالات مصطنعة ، لذا فان الظاهرة الإبداعية ترتبط بحالة تلقائية، وربما قمع الإبداع في الحالة الاصطناعية. فالعمل الإبداعي بوصفه نتاجا لتلك الحالة، ينظر إليه كقيمة عليا في حد ذاته من دون اعتبار لآلية إنتاجه. ولكن عمق الصورة الجمالية للعمل الإبداعي يرتبط بعمق الخيال وقدرته على إعادة تشكيل مفردات الواقع بعد الانعتاق من قواعد المنطق وتقييدات الواقع نفسه . وهذا الانعتاق هو الذي يفسح المجال للخلق أو إعادة الخلق بصورة فنية جديدة ، تفاجئ المتلقي وتثير وتدعم ذوقه الفني .أما التأمل فهو وسيلة إطلاق الخيال ، لأنه قادر على تغيير وتبديل حالة الوعي وإطلاقه من عقدة الشروط الطبيعية ، وفي هذا التبديل وهذا التغيير هو تبديل للمواقف نفسها أي الموقف من الواقع نفسه . وهذا اللون الجديد من الوعي هو ما اسماه غاستون بلاشر بالوعي الشعري . ففي التأمل الخيالي يمتزج الجانب المعرفي بالجانب الانطولوجي فهو انتقال بالوعي من الحالة الطبيعية إلى حالة جديدة يكاد يفقد فيها الوعي بالإحساس بالماحول . وينشغل بفضاء سيكولوجي جديد يعّد مركز الإحساس والوعي. وهنا يمكنه أن يرسم فنتازية لعمل فني محدد. والعمل الفني وسيلة يقيم فيها الفنان وزنا للحالات الشعورية واللاشعورية ، فيعبّر في البدء عن عالمه الروحي وأحاسيسه وعواطفه ، وأداء هذه الجوانب السيكولوجية البالغة الحساسية ، تتوافق مع رهافة الحس وسموه الفردي للاندماج والانصهار مع عمله ، فيتم تحويل عصاراته الداخلية إلى تعاقب إحساسي وإيحائي ، وإتاحة الفرصة لإمكانية التعبير عن الحالة النفسية . وما ضالة الفنان التي تكمن في تحقيق إبداعات تزخر بنبض إنساني وعاطفي لهو دليل على رؤيته وقدرته ، وهي بمثابة استعادة الذات وتوكيد أهميتها ، وغالبا ما يأتي عما يفكر به على هيئة إبداعات ، كحالة لنوازع إنسانية وحاجة استطيقية ، ونتيجة لتفريغ المحبوس الناتج عن الإرهاصات والمعوقات والهيام . ولكن علينا أن نذكر حقيقة مفادها أن معرفة ذلك يتم من خلال جملة عناصر تشكيلية ومقومات فنية في العمل الفني ، لا بد وان الفنان قد عناها بدلالات مقصودة ، يطمح أن يؤكد ذاته على انه قادر على الإحساس بشدة العاطفة وسرعة التأثر ، وهي بلا شك تأتي مشحونة بمعنى الفنان والأديب واقتضاب لشخصيته .فالشعر لم يكن استرسالا كلاميا يتحدد بقواعد العروض والقافية ، انه حالة انفلات من كل عملية تقعيد سواء عروضية أو منطقية . هذا الاستعداد يستبقي حقيقة أن الشعر إحساس صامت في أساسه وجوهره ، انه موقف تجاه صورة كونية جديدة ، صورة خرساء يستنطقها الشاعر ويمنحها لغة شعرية خيالية فوقية ، يسهم الخيال المتسامي الذي حركته الصورة نفسها في تطويع المخزون اللغوي ، فتتحول الظاهرة الطبيعية إلى ظاهرة جمالية داخل الوعي لا خارجه . الظاهرة الجمالية تمثل حالة انتماء إنساني بوصفها ظاهرة من مظاهر الوعي المتسامي . فالإحساس بالموقف الشعري لعملية التعبير ولملحقاتها القواعدية ، انه لحظة حدسية تبدل الحالة الاعتيادية للوعي إلى حالة متسامية ،مما يثير نشاط الخيال الذي يبدع الصورة الشعرية المنطوقة . وفق هذا السياق كل الناس يمتلكون مواقف شاعرية وان لم يمتلكوا إبداعا شعريا ، يمتلكون حالة مشاركة بالإحساس فيمثلون المواقف بصورة نسبية ، تتفاوت بتفاوت الأمزجة والأبعاد النفسية ومستوى تركيب اللاشعور . كل الناس يغنون على الأطلال كما غنى زهير بن أبي سلمى وغيره، ويمتلكون الموقف الشعري الصامت ، ويمارسون التعبير الطبيعي ( البكاء ) إلا أنهم لم يرتقوا إلى المستوى الحدسي الذي يبدل حالة الوعي فيعتق الخيال مخزونه اللغوي ليبدع بتناسب مع الموقف أو يرقى به إلى مستوى النص الخالد ، وعندئذ يصبح الناس أمام العمل الشعري الإبداعي أمام حالة غير متوقعة . حالة نهضت بالموقف الشعري الصامت إلى مستوى متسام غير محسوب مقدما ، ولو لم تكن هذه المشاركة موجودة لم يتولد ذلك التطابق الوجداني بين النص والقارئ ، ولما انتهت الموافقة إلى حالة من الانتشاء والعذوبة التي تنشر بهجتها في تلافيف الجسد . تذوق الشعر أو النص الأدبي يعبّر عن انسجام المتلقي مع النص وحصول حالة التناغم التي مصدرها المشاركة التي تنتهي إلى حالة من تفاعل الخيال مع الذاكرة . لا تخلو العملية من تذكّر معرفي – وجداني أساسه المشاركة الصامتة ، انفعال العاشق الولهان ببيت شعري غزلي جميل ليس كانفعال غير العاشق ، لان مستوى المشاركة عند الأول اكبر بكثير من مستوى المشاركة لدى الثاني ، وبالتالي فمستوى المفاجأة لدى الأول اكبر من الثاني.لأنه أمام موقف غير متوقع. فالإحساس المشترك ينتهي به إلى تضاعيف الإحساس وازدياد جماليته. إذا كان الخيال الفني يصيغ صورة غنية إيحائية للواقع ، فان العلم ( الخيال العلمي ) يصوغ صورة جمالية متناسقة للواقع أيضا . فالعمل الفني في جوهره خلق انساق داخل الفوضى الظاهرة ، وجلب الكثرة اللا متناسقة إلى مزيد من التوحد ، فهو عمل يتضمن إيجاز جمالي للواقع ، فالعمل الجمالي ليس عملا تحليليا فقط ، انه عمل تركيبي لأنه ينطوي على تخطيط وتشذيب واختزال وتجميل ، الإحساس بالبساطة شعور مشترك يواجه الإنسان عندما يواجه النظرية واللوحة والقصيدة . ولأنه إعادة اكتشاف جمالية العمل الإلهي التي يعجز منطق الكثرة عن بلوغها .