شهد العالم مؤخراً حراكاً سياسياً وعسكرياً نشطاً ،بخاصة بعد عقد اتفاقية (أوكوس (AUKUS وهي اتفاقية أمنية ثلاثية عقدت بين الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة ،وأستراليا. وأنَّ الاسم (أوكوس) مشتق من بعض الأحرف الأولى التي ترمز اختصاراً لكلٍ من أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.

هذه الاتفاقية وحسب ما تم الإعلان عنها وعن بنودها العلنية ستساعد كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في تطوير ونشر غواصات عسكرية تعمل بالطاقة النووية، من طراز فرجينيا تعمل انطلاقا من قاعدة ستيرلينغ في بيرث. إضافة إلى تعزيز الوجود العسكري الغربي في منطقة المحيط الهادئ.على الرغم من أنّ الإعلان المشترك للرئيس الأمريكي من الحزب الديمقراطي جو بايدن. ورئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون لم يذكر أي دولةٍ أخرى بالاسم، ومن خلال العديد من المصادر المتدفقة من البيت الأبيض أنَّ هذا الحلف مصمَّم لمواجهة نفوذ جمهورية الصين الشعبية في منطقة المحيط الهادئ والمحيط الهندي، وهو توصيف يتفق معه المحللون الاستراتيجيون. وقد وُصفت الاتفاقية بأنها خليفة لاتفاق (أنزوس) الحالي بين الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا ونيوزيلندا، مع (تهميش) وإهمال نيوزيلندا بسبب حظرها للطاقة النووية، ولكن لم يتم الإدلاء بأي تصريح علني رسمي بهذا الشأن. مع العلم أنَّ الاتفاقية تغطي مجالات رئيسية مثل الذكاء الاصطناعي ،والأنظمة تحت الماء ،والحرب الإلكترونية ،وقدرات الضربة بعيدة المدى. ويتضمن أيضاً مكوناً نووياً، ربما يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة بشأن البنية التحتية للدفاع النووي.
كما تشمل الاتفاقية تبادل معلومات وتقنيات في عدد كبير من المجالات، من بينها الاستخبارات بمستوياتها المتنوعة ،والحوسبة الكمية، فضلاً عن تزويد أستراليا بصواريخ (توماهوك كروز).وهي صواريخ تنتجها الولايات المتحدة الأمريكية ،وهي عدة أنواع من صواريخ (توماهوك) الطويلة المدى، والقابلة للإطلاق من السفن بأسرع من الصوت، وبوسعها التحليق على ارتفاعات منخفضة. كما تشمل الاتفاقية أحكاماً تمكِّن أستراليا من الحصول تلك الغواصات النووية وهي عملية ستشمل إلغاء برنامج الغواصات التي تعمل بالكهرباء والديزل من فئة الهجوم والتي كان من المقرر سابقاً أن تحل محل فئة كولينز.وكانت الولايات المتحدة قد تعهدت بتزويد أستراليا باليورانيوم عالي التخصيب لتشغيل الغواصات. حيث وافقت أستراليا على عدم إنتاج يورانيوم عالي التخصيب بنفسها. كما أنِّ البحرية الإسترالية تحتاج إلى غواصات عسكرية ضخمة والتي كانت قد تعاقدت مع فرنسا لشراء عدد من الغواصات العسكرية التقليدية . لكن الولايات المتحدة الأمريكية عملت على اقناع حليفتها استراليا فسخ العقود مع الفرنسيين. وتعهدت ببناء غواصات نووية مهمة للغاية بالنسبة لأستراليا، هذه الغواصات سوف يتم بناؤها في مدينة أديلايد جنوب أستراليا، حيث ستقوم كل من الولايات المتحدة الأمريكية ،والمملكة المتحدة ،بتزويد أستراليا بالاستشارات التكنولوجية اللازمة لإنتاجها.ويبدو أنَّ التحالف بعد اتفاقية (أوكوس (AUKUSيأتي في إطار تعهد إدارة الرئيس الأمريكي جوبايدن بمنح الأولوية للتنافس الاستراتيجي مع جمهورية الصين الشعبية، وتعزيز تحالفات الولايات المتحدة الأمريكية التقليدية، ومن بينها (الرباعية) التي تضم أستراليا والهند واليابان إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية .ويعتبر تحالف (أوكوس (AUKUS نقلة نوعية مختلفة تماماً. ففضلاً عن أن صفقة الغواصات ستوطد الوجود الأمريكي - البريطاني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لعقود، فإن التحالف سيسعى إلى الفوز بسباق التكنولوجيا الجاري مع جمهورية الصين الشعبية عبر دمج خطوط الإمدادات في مجال الصناعة والتقنية العسكرية المتطورة .
 وكما أسلفنا فقد تلقت فرنسا جراء الاتفاق الأسترالي البريطاني الأمريكي ضربة موجعة، وصفها وزير خارجيتها بالطعنة في الظهر، وهي عبارة عن خيانة لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية. حيث تعتبر فرنسا من أبرز حلفائها الغربيين، ومن ثم فإنَّه وإضافة لهذه الخسارة التجارية التي تقدر بمئات الملايين من الدولارات، فإن فرنسا تعرّضت في اللحظة نفسها لخسارة جيوسياسية كبرى بإقصائها من اتفاقية (أوكوس (AUKUS التي جرى توقيعها بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا من أجل توطيد الشراكة العسكرية والأمنية بين هذه الدول الثلاث في المحيط الهادي والمحيط الهندي ، على الرغم من أن فرنسا معنية بشكلٍ مباشر بمثل هذه الترتيبات الأمنية والعسكرية بحكم امتدادها الجغرافي في جزيرة كاليدونيا الجديدة، وقد دفع هذا الإقصاء وهذا التهميش الخبير الفرنسي بول موريس إلى القول إن اتفاقية (أوكوس (AUKUS لا تخدم المصالح الفرنسية على المدى البعيد.مع العلم أن القيادة العليا في فرنسا كانت ترغب في انضمام فرنسا إلى هذا الحلف .
من الواضح أن توقيع فرنسا لصفقة بيع الغواصات التقليدية لأستراليا عام 2016 م اكتسب في حينه أهميةً كبرى، لأنه جعل من فرنسا قوةً كبرى في مجال الصناعات العسكرية أمام العالم. ومكّنها من أن تكون دولة فاعلة وقوية في المحيط الهادي، ومنح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أوراق تفاوض مهمة في علاقاته مع دول منافسة لبلاده إقليمياً ودولياً مثل المملكة المتحدة، وبالتالي فإن تداعيات ما حدث من تطورات في المحيط الهادي والمحيط الهندي ستكون خطيرة، حيث إنه وعلاوة على فقدان الثقة الحقيقية بين الشركاء الرئيسيين في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإنَّ نتائج اتفاقية (أوكوس (AUKUS تعتبر سلبية جداً بالنسبة لفرنسا بشكلٍ خاص ،وأوروبا بشكلٍ عام. وتحديداً بالنسبة للحلف الفرنسي -الألماني، ويمكن لفرنسا أن تقود نحو إعادة توجيه الأهداف الاستراتيجية لشركاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) من الدول الأوروبية لإقحامهم في المواجهة الدائرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية. وقد يؤدي أيضاً. وهو أمر ممكن الحدوث غياب فرنسا بقلها السياسي والعسكري والأمني عن اتفاقية (أوكوس (AUKUS إلى جعلها عاجزة عن إقناع شركائها الأوروبيين من أجل التأثير في توجيه سياسات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وذلك في وقتٍ ما زال مشروع تأسيس القوة العسكرية الأوروبية المشتركة يواجه العديد من التحفظات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ودول وسط وشرق أوروبا، كما سيفضي كل ذلك إلى تحوّل جميع دول الاتحاد الأوروبي إلى قوةٍ تابعةٍ وغير مؤثرة على مستوى العلاقات الدولية ،ومستوى علاقاتها الاقتصادية والسياسية بين العديد من دول العالم .
وعليه فإنَّ تراجع التنسيق الاستراتيجي بين فرنسا والمملكة المتحدة بعد الدور السلبي الذي لعبته هذه الأخيرة في إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا، والذي تم وصفه من طرف جهات فرنسية بأنَّه موقف انتهازي، يجعل فرنسا بكل ثقلها تلجأ إلى المراهنة بشكل كلّي على علاقاتها مع جمهورية ألمانيا الاتحادية على الرغم من عدم وضوح الاستراتيجية الألمانية وأهدافها النهائية بشأن سياساتها الدفاعية في مرحلة تشهد فيها ألمانيا وضعاً سياسياً متقلباً بعد مغادرة المستشارة أنجيلا ميركل للحكم، ومجيء نخبة سياسية غير متجانسة، ولا تُعرف حتى الآن نواياها الحقيقية أو خططها بشأن مستقبل التحالف الألماني- الفرنسي،على الرغم من التسريبات هنا وهناك، لاسيما وأن هناك رغبة واضحة لدى السياسيين الألمان من أجل الدفاع عن مكونهم الأساسي أولاً وقبل كل شيء. وعن مصالح بلادهم، وعدم الانجرار خلف فرنسا في خصومتها مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.
ويذهب الخبراء الفرنسيون الاستراتيجيون إلى الاستنتاج بأن دور بريطانيا في إبرام اتفاقية (أوكوس (AUKUS كان محورياً ،تماماً، لأنها باتت تقود سياسة خارجية جديدة قائمة على منافسة الدول الأوروبية فيما يتعلق باتخاذ القرارات الدولية الحاسمة، وبخاصة بعد إتمامها لإجراءات (البريكست) ،ويمكن بالتالي اعتبار اتفاقية (أوكوس (AUKUS بمثابة نصر لرئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في سياق سعيه إلى إعادة صياغة علاقات بريطانيا الخارجية بعيداً عن وصاية دول الاتحاد الأوروبي.
هذا الإخفاق التجاري والسياسي الفرنسي يأتي في مرحلةٍ تعرف فيها العلاقات التاريخية بين فرنسا والعديد من دول قارة إفريقيا، أزماتٍ عميقةٍ جداً على خلفية تصاعد التوتر بينها وبين جمهورية مالي وجمهورية الجزائر الديمقراطية الشعبية، وجمهورية إفريقيا الوسطى، بسبب فشلها الذريع في تحقيق المصالحة مع ذاكرتها الاستعمارية المؤلمة للمنطقة، من جهة، ونتيجةً لدخول لاعبين جدد على ساحة المنافسة الجيوسياسية والاقتصادية في إفريقيا وفي مقدمتهم جمهورية الصين الشعبية وجمهورية روسيا الاتحادية، من جهة أخرى.
calendar_month16/11/2021 12:15 pm