
يبرز مصطلح الحداثة أو العصرنة مع فكرة تجديد وتطوير وتحديث ما هو قديم .وهو مصطلح يبرز في المجال الفكري والثقافي والتاريخي، ليدلّ على مرحلة التطور المتسارعة التي طبعت القارة الأوروبية، بشكل خاص في مرحلة العصور الحديثة. وبشكلٍ مبسط، يمكن تقسيم التاريخ إلى خمسة أجزاء: قسم ما قبل التاريخ، والتاريخ القديم، العصور الوسطى، العصر الحديث، والعصر ما بعد الحديث. حيث طغت فكرة ما بعد الحداثة في الغرب الأوروبي قبل غيرها من بلدان العالم .
لذا نجد معظم الحياة الحديثة وما بعد الحديثة قد تغذت من مصادر متعددة:مثل الاكتشافات العلمية المذهلة، ومعلومات عن موقعنا من الفضاء والفضاء الخارجي وتصورنا عنه، وتطور مكننة الصناعة والآلات الصناعية التي حولت المعرفة بالعلوم إلى التقنيات العالية والتكنولوجيا،واستخدام الأقمار الصناعية والشرائح الأليكترونية عالية الذكاء ،والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها. كل هذا يبين القديم والجديد من ما خلق للبشرعلى وجه البسيطة، فهو يعجل حركة الحياة للناس، يبلور أفكاراً واتجاهاتٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ واجتماعيةٍ ودينيةٍ وسياسيةٍ، يكون قوى وسلطات حاكمة جديدة ، يعقّد العلاقات بين الناس وبعضهم ،وبين الناس والمؤسسات والإدارات المختلفة، يزيد أو يغير الاتجاهات الاجتماعية والصراعات الطبقية ويفصل الملايين من البشر عن تاريخهم السحيق وعاداتهم الموروثة منذ الأزل.
أما الترجمة العربية للحداثة فإنها تعود إلى التمدين وفن العمارة والهندسة المعمارية وإنشاء المدن وبنيتها التحتية . واستخدم المفهوم في بدايته بالمعمار الحديث المتطور. ولم يستخدم في مجال الفكر والثقافة إلا في مراحل لاحقة.والمفهوم ذاته، يشي بالتعقيد والصعوبة ووجود مجتمع حداثي متطور خالص، وكذلك القضايا العالمية المعاصرة والتقدم والتطور، هي أمور نسبية نوعاً ما. وقد ارتبطت الحداثة، بالنظم التعاقدية، حيث الشعب هو مصدر السلطات من خلال العقد الاجتماعي ، لكنها في مراحلها الأولى، لم تتصد للبون الشاسع جداً بين الغنى والفقر، وبقيت مجتمعاتها الكبيرة ، تعيش تناقضات اجتماعية حادة وواسعة. وكان لهذا الواقع انعكاساته الكبيرة، على الفكر والثقافة وتطورهما.
الجدير بالذكر أنّ الأفكارالمحافظة والتقدم تعايشت زمنياً مع بعضها البعض منذ القدم. فهناك مع توهج حضارة الإغريق، ماديّون ورواقيون وأبيقوريون. وفي العصر العربي، وجد المعتزلة والأشعريون، كما أنَّ هناك شعراءٌ مجددين، كأبي تمام، حبيب بن أوس بن الحارث الطائي، أحد أمراء البيان، وغيره وجدوا في الماضي ذروة ما أبدعته الحضارة الإنسانية. وأيضاً على اختلاف أنماط العيش والثقافات والمفاهيم والآراء بين المركز والأطراف. أما الفكر المحافظ فقد بقي متمسكاً بالمقولة التاريخية الشائعة: (ليس بالإمكان أبدع مما كان) أو (أفضل مما كان)، في حين ينطلق العقل والفكر المجدِّد من التسليم بقوانين الحركة المادية، وبمقولة هرقليطس من مدينة افسوس في الامبراطورية الأخمينية وهو رجلً اشتهر لإصراره على أنّ الوجود في تغير دائم باعتبار التغير هو الجوهر الأساسي في الكون حيث قال: (إنك لا تستطيع أن تسبح في ماء النهر مرتين). والأفكار بكل تنوعاتها لا تموت بشكلٍ نهائي، وإنما تأخذ أشكالاً جديدة معصرنة فيها حداثة أو ربما ما بعد الحداثة. وما كان معاصراً بالأمس، يغدو غير ذلك اليوم، حين لا يتعايش ويتكيف مع التطور التاريخي، ومنجزات العلم والفكر والمعرفة والثقافة والحضارة.
نحن العرب تأخرنا عن الحداثة، بكل تجلياتها، بسب ما تم من نزاعات وصراعات وحروب واستعمار للأرض العربية ابتداءاً من الحروب الصليبية التي دامت من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 ـ 1291) م أي حوالي 195 سنة، وحرب المغول والتتار الذي دمّر وأحرق المدن والقرى والبلدات العربية. واحتل مدينة بغداد عاصمة الدنيا وأتلف مئات آلاف الكتب العلمية والفكرية والسياسية والاجتماعية التي ألقيت في نهري الفرات ودجلة حتى صارت لون مياهه سوداء من لون حبر الكتب ،والاحتلال العثماني الذي دام قرابة أربعمائة عام وساهم في عملية التخلف والتجهيل، والإستعمار البريطاني والفرنسي والإيطالي والصهيوني ... إلخ وجرت إعاقة المشروع الحداثي العربي،التي عبّرت عنها مرحلة التنوير والأنوار وسمي عصر النهضة العربية . وسبب هذه الإعاقة، لا تكمن في عدم القدرة على تفكيك أسباب تخلف الأمة العربية، بل هي في جزء منها، نتاج لعاملين رئيسيين، الأول، غياب المشروع الاستراتيجي العربي الذي يتكفل بتحول المجتمع العربي من حاله القديم التي انطبع عليها ، إلى الحداثة. والثاني هو غياب الحامل الاجتماعي للنهوض بعصر التنوير نتيجة ما خلفه الاستعمار العثماني من جهلٍ وفقرٍ ومرض وتخلف. وتلك قضايا تحدثنا عنها مطولاً في دراساتنا ومقالاتنا وبعض ما انتجناه من كتب، حملت مقاربات ومقارنات بين عصر الأنوار الأوروبي، وما تمخض عنه من تطوير وتحديث، وعصر التنوير العربي، ونتائجه الفاشلة .
انتقلت القارة الأوروبية للحداثة، عبر مرحلة طويلة من الزمن، امتدت قرابة أربعة عقود متتالية، منذ بداية حركة الإصلاح الديني، في فرنسا وألمانيا. وقد شهدت القارة الأوروبية مرحلة تبشير واسعة بها، عبّرت عنها أفكار الفيلسوف الجنيفي السويسري جان جاك روسو، والقاضي ورجل الأدب والفيلسوف السياسي الفرنسي.شارل لوي دي سيكوندا الشهير ب مونتسيكيو. والفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الإنكليزي جون لوك. وتوماس هوبز أحد أكبر فلاسفة القرن السابع عشر بإنكلترا ،وأكثرهم شهرة خصوصاً في المجال القانوني حيث كان بالإضافة إلى اشتغاله بالفلسفة والأخلاق والتاريخ فقيها قانونياً، وأدب فيكتور هيجو وفولتير إلخ. وقد كانت تلك الأفكار بوصلة لما بعد اندلاع الثورة الصناعية الأوروبية، واندلاع الثورات الاجتماعية في كل من فرنسا وإنكلترا. وقد اضطلع أرباب العمل وأصحاب رؤوس الأموال، والطبقة البورجوازية الغربية بدور الحاضن الاجتماعي لدولة المواطنة ،والعقد الاجتماعي، وللحقوق الفردية والملكية الخاصة.
في وطننا العربي، تعطل مشروع التنوير ومشروع النهضة العربية، فقد ولِدَت معاقة ، بشكلٍ واضح منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وجرى تدمير ممنهج للقوى الاجتماعية العربية، التي بذرت نبتات التنوير والنهضة. وللأسف الشديد لم تبرز حتى يومنا هذا قوة اجتماعية عربية، أو هياكل سياسية متكاملة، تحتضن هذا المشروع وتساهم في إنعاشه. وبالتأكيد فإن الوعي بهذه الحقائق، على مرارتها وقسوتها، يفتح بوابات أمل جديد، بإمكانية تجاوز واقع التخلف الراهن، وما نعانينه نحن العرب من إعاقات بنيوية في مجال الاقتصاد والسياسة والإجتماع والعلوم والمعارف والثقافة .
إنَّ آليات وهياكل النهوض العربي، هو الذي يضمن السير إلى الأمام، دون تهميش أو إقصاء للآخر، ودون الانتقاص من الفرد أو من بعض الكتل الاجتماعية، ومن ضمنها الأفكار والمفاهيم والثقافة. وفكر الحداثة حين يتحوّل إلى نمط حياتي معيّن،مدروس ومقنع للجميع ودون تمييز. سيكون موضع قبول الجميع دون تردّد أو معارضة .
لقد عارضت بعض القوى الاجتماعية في فرنسا، التحولات السياسية التي ارتبطت بها، لكنها غيّرت بشكلٍ ملحوظ مواقفها بعد أن استقرت الأمور في البلاد، لمصلحة المبادئ التي بشّرت بها الثورة الفرنسية. ولقد عارضت الكنيسة وما تملكه من سلطات واسعة ،الثورة الفرنسية في حينها، أما الآن فإنها تدافع عن قيم التعددية، التي هي جوهر وروح الثورة الفرنسية، لأنها إن لم تقدم على ذلك، وتتكيف مع الهياكل الاجتماعية الجديدة، تفقد صلتها بالواقع المعاش. ومثل ذلك يقال عن الكاثوليك، الذين اندلعت ثورة المتطهرين أو البيوريتانية. وهم من اتباع المذهب المسيحي البروتستانتي الذي يجمع خليطاً من الأفكار الاجتماعية السياسية اللاهوتية والأخلاقية في بريطانيا، لمصادرة دورهم، والانتصار للإصلاح الديني اللوثري الذي قام به مارتن لوثر. لكنهم بعد عودة الملكية حافظوا على الإرث السياسي للمتطهرين البيوريتانس. فالكاثوليك باتوا يشاركون بالفعل، في كل المجالات الفكرية والسياسية وفقاً للشروط التي هيأت لها حركة الإصلاح الديني البيوريتانية في بريطانيا وفرنسا، والتي شملت القارة الأوروبية بأكملها، والولايات المتحدة الأمريكية ،ومناطق أخرى من القارات الخمس القديمة.
الولوج العربي الحقيقي في مرحلة الحداثة، يتطلب وفرة في مناخات الحرية الفكرية وحرية الرأي والتعبير والعدالة الاجتماعية والمساواة ، لأنها شرط لازم لأي عمل فكري أو إبداعي. ولا يمكن لأي مجتمع من المجتمعات أن يعيش من غير ثقافة ومعرفة وفكر، مهما كانت درجة اندماجه بالحراك الإنساني الدائر من حولنا في العالم.
لذا فإنَّ الولوج في عمق الحداثة بتجلياتها المتعدّدة، يقتضي الانتقال إلى وعي جديد، ينقل العرب من صفة الناقلين والناسخين، من غير تردّد أو خوف أو وجل، لأنّ في تاريخنا العريق من تراكم الحضارة العربية العريقة والمواريث الهائلة، ما يؤهلنا لأن نلعب هذا الدور بجدارة. وهنا ينبغي علينا أن نؤكد في هذا السياق، على أهمية رفع سقف حرية التعبير وحرية الرأي وفرض العدالة والمساواة الاجتماعية، ورسم سياسات تجرِّم الكراهية والحقد، وتحرِّض على الإبداع والتفكير والتطوير والتحديث، وتنتصر للعلم وللعقل والمعرفة الإنسانية العميقة، وتتخلى عن ثقافة التلقين والترديد ، باعتماد التحليل والتفكيك كما في نظرية جاك دريدا، والتشجيع على البحث العلمي وتطوره، بكافة صنوفه واتجاهاته الإنسانية.