
شهدت أمتنا العربية تسجيل أوّل وثيقةٍ في العالم حول حقوق الإنسان. وهي وثيقة حلف الفضول التي أبرمتها قريش مع خمسة من بطونها. وكان الحلف قد سمي بحلف الفضول لأنّ قريشاً تحالفوا على أن يردوا الفضول على أهله وقالوا بعد إبرامه: هذا فضول من الحلف .وحلف الفضول هو أحد الأحلاف الأربعة التي عقدت قبل الإسلام التي شهدتها قريش، وقد عقد الحلف في دار عبد الله بن جدعان التميمي القرشي أحد سادات قريش الكبار وذلك مع عدد من عشائر قبيلة قريش في مكة المكرمة ، في شهر ذي القعدة سنة 590 م بعد شهر من انتهاء حرب الفجار الطاحنة التي دارت بين كنانة وقيس عيلان . هذا الاتفاق توافق عليه بنو هاشم وبنو زهرة وبنو تيم حيث تعاهدوا فيه على أن: (لا يظلم أحد في مكة المكرمة إلا ردوا ظلامته). وقد شهد الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف قبل بعثته وله من العمر 20 سنة، وقال عنه لاحقًا: (لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت) .لقد أجمع العالم على الاعتراف بأنّ حلف الفضول هو أول وثيقة في التاريخ الإنساني ،وبناء عليه تم الإعلان عن وثيقة حقوق الإنسان وهي وثيقة حقوق دولية تمثل الإعلان العالمي الذي تبنته الأمم المتحدة بتاريخ 10 ديسمبر 1948 في قصر شايو في العاصمة الفرنسية باريس والذي تضمن فكرة حقوق الإنسان التي هي حقوق نتمتّع بها جميعنا لمجرّد أنّنا من البشر، ولا تمنحنا إيّاها أي دولةٍ في العالم. وهذه الحقوق العالميّة متأصلة في جميع البشر منذ ولادتهم، مهما كانت جنسيتهم، أو نوعهم الاجتماعي، أو أصلهم الوطني أو العرقي أو لونهم، أو دينهم أو طوائفهم ، أو لغتهم، أو أي وضع آخر.
الجدير بالذكر أنَّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يتألف من 30 مادة ، ويخطط رأي الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن حقوق الإنسان المكفولة لجميع الناس. الجدير بالذكر في هذا المقام ان المخاطبة الدائمة من قبل المفكرين العرب لهيئة الأمم المتحدة وعدد كبير من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان أدَّت إلى الاعتراف بحلف الفضول في العام 2007 م بشكلٍ رسمي حيث وردت الإشارة إليه في بيان أصدرته المفوضية السامية لحقوق الإنسان التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتباره أحد مصادر الفكرة الكونية لحقوق الإنسان.التي تأسّست في شهر كانون الأوّل من العام 1993، بموجب قرارها رقم 48 / 141 الذي يفصّل أيضًا ولايتها، وذلك بعد أشهر قليلة من اعتماد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان وإعلان خطة عمل العاصمة النمساوية فيينا .
ولو عدنا إلى حلف الفضول لوجدنا أنّ الدعوة للحلف قام فيها الزبير بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، الذي قال: (ما لهذا منزل) فاجتمعت القبائل وساداتها من هاشم وتيم بن مرة وزهرة في دار دار عبد الله بن جدعان التميمي القرشي وهو من كبار سادة قريش كما ذكرنا ،الذي أكرم الجميع بعد أن صنع لهم طعاما،وكان حلف الفضول قد ضم خمسة أفخاذ من قريش هي :عبد مناف بنو هاشم ، وبنو المطلب بن عبد مناف ، وبنو أسد بن العزى، وبن كلاب بن زهرة ، وبن مرة بنو تيم، وبني الهون عضل والقارة من كنانة .وتحالفوا في ذي القعدة، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله ليكونن يداً واحدةً مع المظلوم على الظالم حتى يؤدَّى إليه حقَّه (ما بل بحر صوفة وما رسا حراء وثبير مكانهما)، وعلى التأسي في المعاش فسمَّت قريش ذلك الحلف .حلف الفضول وقالوا : (لقد دخل هؤلاء في فضلٍ من الأمر)،ثم مشوا إلى العاص بن وائل السهمي فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه وقال الزبير بن عبد المطلب:
حلفت لنقعدن حلفا عليهم وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا يعز به الغريب لدى الجوار
يعز به الغريب لدى الجوار أباة الضيم نمنع كل عار
وقصة حلف الفضول كما وردت في التراث العربي تقول : (أن رجلا من قبيلة "زبيد" اليمنية قدم إلى مكة فى الجاهلية ببضاعةٍ له يريد بيعها في المدينةِ، فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي، وهو) والد عمرو بن العاص)، ولكنه رفض أن يعطيه ثمنها. ولما استيأس "الزبيدى" من الحصول على حقه من العاص بن وائل السهمي صعد جبل أبى قبيس بمكة المكرمة ـ وقريش فى أنديتهم حول الكعبة ـ وأنشد أبياتا من الشعر يعرض فيها مظلمته ويناشد قريشاً أن يردّوا إليه حقَّه، فسمع استغاثته ومناشدته الزبير بن عبدالمطلب بن هاشم عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال: (ما لهذا مترك)! فاجتمع فى دار عبدالله بن جدعان التيمى خمسة من بطون قريش وتحالفوا في ذي القعدة، (وهو شهر حرام)، على أن ينصفوا أي مظلوم فى مكة، مهما كان .غريباً كان أو قريباً، حراً أو عبداً، وأن يكونوا يداً واحدةً قويةً على من ظلمه. ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل السهمي وألزموه بأن يردَّ إلى الرجلِ حقَّه، فأذعن لحكمهم. ومكثوا كذلك لا يظلم أحد بمكة إلا أنصفوه وردوا إليه حقه. لقد كان للحلف وما يزال أهمية كبيرة في تاريخنا العربي القديم والحديث فنحن نعتبره أول رابطة أساسية لحقوق الإنسان على وجه البسيطة .وهو تعاهدٌ على رفض القهر والظلم والعمل على إلغائه كاملاً. والمساواة التامة بين أهل مكة، ومن دخلها من سائر الناس. وإحقاق الحق والعدل، ونصرة المظلوم والملهوف، وردّ الحقوق إليه، والوقوف ضد الظالم ومن يسانده، والحفاظ على حياة الناس وكرامتهم وإنسانيتهم وحقوقهم، واللجوء إلى هيئة (الفضلاء) لردّ الظلم والقهر.
منذ ما يزيد عن نصف قرن تابعنا ما كتب عن حقوق الإنسان وروافده ، لكننا وجدنا إهمالاً وتهميشاً متعمداً من قبل معظم العالم لحلف الفضول الذي يعتبر أساس حقوق الإنسان. بعد أن اعترفت به العديد من المنظمات الإنسانية والحقوقية في العالم. ما يؤلم في الأمر أنّ الأمم والبلدان في العالم تتسابق لتأكيد تراثها وتاريخها وروافدها الفكرية والثقافية والمعرفية. مع العلم أنَّ هذا الحلف كان قد تأسّس بين أعوام (590 ـ 595) م. أي ما يزيد على ستة قرون على صدور الماغنا كارتا (العهد العظيم) أو( الميثاق الأعظم) وهي وثيقة انكليزية صدرت لأول مرة عام 1215م. ثم صدرت مرة أخرى في عام 1216م. ولكن بنسخة ذات أحكام أقل، وقبل نحو 12 قرناً من الثورة الفرنسية وصدور (ميثاق حقوق الإنسان والمواطن.( هو الإعلان الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الوطنية في 26 آب عام 1789 م يعتبر الإعلان وثيقة حقوق من وثائق الثورة الفرنسية الأساسية وتُعرَّف فيها الحقوق الفردية والجماعية للأمة.
نعم إنَّ وثيقة حلف الفضول تمثِّل جوهر فكرة حقوق الإنسان الحديث والمعاصر، برفض الظلم والقهر والتمييز مهما كان نوعه مدنياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، أو ثقافياً أو اقتصادياً،. وقد اغتنت فكرة حلف الفضول وتعمّقت بالقيم والمبادئ التي جاء بها القرآن الكريم والسنَّة النبوية الشريفة ومثل هذه الإشارة لها دلالاتها ومؤشراتها المهمة، فهي تعني أننا نحن العرب قاربنا فكرة حقوق الإنسان منذ ما يزيد على 1400 سنة، ولنا رافدنا التاريخي والثقافي والمعرفي إسوة ببقية أمم وشعوب العالم التي تبحث في تاريخها وتراثها وماضيها ما يدعم الفكرة المعاصرة .بدلاً من التنكّر لها أو تهميشها. كما أنها تردّ علينا نحن العرب بأنَّ ديننا يحضّ على الكراهية والظلم والعنف والإرهاب.
ضمن هذا السياق العالمي يفرض بمرارة كبيرة التساؤل نفسه على الجميع وبخاصة بعد انتشار فكرة حقوق الإنسان التي تبنتها الأمم المتحدة عام 1948 م، هل يمكن مقاربة (حلف الفضول) الذي عقِدَ بين أعوام (590 ـ 595) م لفكرة حقوق الإنسان المعاصرة تاريخياً ؟ وهل هناك جذور وأسس أخرى لمفاهيم حقوق الإنسان في تاريخنا العربي المجيد ؟
ونحن كأمة عربية عريقة ،وذات حضارةٍ إنسانيةٍ متجذّرةٍ في التاريخ، مثلنا مثل غيرنا من الأمم، لا يمكننا غضّ الطرف عن الفكرة الكونية لحقوق الإنسان، وهي قضية جوهرية تخص كل البشر، خصوصاً أنَّ الفكرة اكتسبت بعداً دولياً وحظيت باهتمامٍ كبير وواسع من جانب المجتمع الدولي وتم تثبيتها في قوانين وتشريعات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان وروافدها وامتداداتها، وبالتالي لا بدّ من البحث في تراثنا العربي الغني جداً بما ينسجم مع توجّهاتها، علماً بأنَّ فكرة حقوق الإنسان، وإنْ كانت نبيلة وإنسانية في جوهرها، إلّا أنها تستخدم أحياناً لأغراضٍ سياسيةٍ بمعايير ازدواجية وبطريقةٍ انتقائيةٍ، وغالباً ما تكون سلبية، خصوصاً من جانب القوى المتنفذة والمهيمنة في العلاقات الدولية، من دون أن نتجاهل أبداً أنَّ بعض تلك الاتجاهات المتعصّبة جداً في وطننا العربي تعاملت معها باعتبارها (اختراعاً مشبوهاً) و(بدعة غربية)، نافية لدرجة الإنكار الكلّي أيّة علاقة لها بالتاريخ العربي الإسلامي الأصيل السامي.
أخيراً لا بدَّ من التأكيد على أنّ حلف الفضول يشكلً عمقاً إنسانياً وحضارياً كبيراً على البشرية. كما هو تأكيد على أننا نحن العرب لا نتناقض مع فكرة حقوق الإنسان التي طرحتها الأمم المتحدة وصادقت عليها منذ العام 1948 م. وكنا نحن العرب قد طرحناها منذ أكثر من 1470 عاماً .