أتهرّبُ من حدود الجسد المصاب بالقنوط وما تبقّى من النفْسِ الملطّخة بدم القلق .
تطوّقني رائحة الموسيقا بعذوبتها السرمديّة الغامضة , تغسِلني برذاذِ اللذَّةِ الحافيةِ وتحمِلُني على بساطها الصوتيّ إلى هناكَ , إلى روح المكان حيث تتعشّقُ حساسيّةُ الأصواتِ ببهجةِ الذاكرةِ وتعاستها القاسية .

كأنّي أعيدُ تأثيثَ المكانِ بمخيّلةِ الموسيقا !
يا لغرابةِ المشهد :
تبزغُ وجوه الناس نيرةً مخمورةً من صدر العود وكأنها تتخارجُ بعد سكرةٍ من عَرَقِ الأوتار , تتلألأ العيونُ بحبّاتِ الدمعِ مشتاقةً إلى أرضٍ أسطوريةٍ بعيدة . 
يُشفّني وجدُ الناي الملائكيّ بتفرّدِ العازف الذي يئنّ وكأنه ينفخ نار روحه في مئذنةِ المسجد التي تفضّ بكارة السماﺀ , بُحّةُ الناي تستحضرُ صوتَ أمي في صورةٍ معلّقةٍ على جدار غرفتي المهجورة من ألف عام , يتعانقُ الناي مع العود فأشاهد ابتسامةَ شهيدٍ جائعٍ تزفّه الزغاريد المبحوحة إلى عرس الغياب .
أغمض عينيّ المسحورتين لأرى أكثر , تُشرقُ شمسُ الإيقاع , يشتعلُ خشبُ الدّفّ على وقع أصابعَ ناعمة تتقمّص أنوار الغسق الطريّة , هنا مشيتُ أنا وجدّي بعد صلاة العيد مغتبطاً بطفولتي الفقيرة وبعكازته المطليّة بزيت الزيتون , كانت عكازته تدقّ الأرض بوقارٍ لتؤلّف إيقاعاً يُطربُ سُكّان روحي .
تتفايض الصور من عينيّ المغمضتين : هنا قبّلتها أوّل مرّةٍ بين قذيقتينِ فارتعشتْ وسال الدم من لحم المكانِ كما يسيلُ دم النهوندِ في بئر أعماقي , هناك ودّعتني كحلمٍ حزينٍ تتصاعدُ اختلاجاتهُ من زوايا البيانو . 
يا لغرابة الحواس حين تضطرم التباساتها : تطلعُ النساﺀُ الجميلاتُ من فوّهةِ السكسافونِ بهدوﺀٍ آسِرٍ كرائحةِ التفاح في السوق , تنهضُ الكمنجةُ , ترشّ صوتها بين الأزقةِ وتوقظ الأطفال النائمين ليذهبوا إلى مدارسهم , ها هم يطيرونَ إلى الدرسِ كَفَرَاشٍ شغوفٍ بالضوﺀ .
تصمت الموسيقا
تسكتُ الآلاتُ ..
أفتحُ عينيّ المثقلتينِ بالسُّكْرِ وأهمسُ لنفْسي : ثمّةَ مكانٌ آخرٌ في الموسيقا ..
إنها آخرُ ابتكاراتِ الحنينْ .
calendar_month14/02/2022 07:17 am