
مقولة قالها أبي حيّان التوحيدي بأنّ الكلامَ على الكلامِ صعبٌ.أي أنّه كلاماً ثانياً هاماً على كلامٍ أوّل. لأنّ النّصَّ الأوّل هو النّصُّ الإبداعيّ الذي كتبه المبدع ،والنّصّ الثّاني هو النّصّ النّقدي بوصفه نصّاً يوازي النّصّ المُبْدَع. بناءً على كلام المبدِع الذي ألَّف النص، كما يمكننا القول: بأنّ القراءةَ ليستْ إلا تعديلًا مستمرّاً ومتواصلاً لنص المبدِع ولسابقته على حدِّ تعبيرِ التّفكيكيين أتباع جاك دريدا .
من هنا لا يمكن إغفال دور النقد في العمل الأدبي. فالحركة النقدية العربية والعالمية ضرورة هامة وحيويّة وأساسية للنصّ المبدع، ومن دونها لا يعرف الكاتب قيمة ووزن نصوصه الإبداعية ،خاصةً إذا كانت في بداياته، ولا يجد طريقاً ممنهجاً وقويماً لتصحيح الطرق والمسالك التي يمكن أن يتبعها إن كانت ثمة حاجة إليها .
لذا فإنَّ النقد عملية وصفية وتشريحية تبدأ بعد عملية الإبداع مباشرةً، وتستهدف قراءة الأثر الأدبي ونتائجه ومقاربته قصد تبيان جوهره ومواطن الجودة و الرداءة فيه. ويسمى الذي يقوم بوظيفة مدارسة الإبداع ومحاكمته الناقد ،لأنه يقوم بكشف ماهو أصيلٌ وصحيحٌ في النص الأدبي، ويميزه عما هو مصطنع وزائف. وهكذا مع تطور الرؤى النقدية فقد أصبح في مرحلة مابعد البنيوية ومع التصور السيميوطيقي وهو العلم الذي يدرس أنساق العلامات والأدلة والرموز،سواء أكانت طبيعية أم صناعية.و ما بعد مرحلة جمالية التقبل، استبعد مصطلح الناقد وصار مجرد قارئ يقارب حقيقة النص المبدَع ويعيد إنتاجه وبناءه من جديد وتسمى مهمة الناقد بالنقد وغالبا ما يرتبط النقد بالوصف والتفسير والهيرمونيطيقا التأويلية، والكشف والتحليل والتقويم. أما النص الذي يتم تقويمه ووصفه وتفسيره من قبل الناقد يسمى بالنص المنقود.
من جهةٍ أخرى، تختلط الأمورعلى المتلقي العادي الذي لا يملك الحدّ الأدنى من أدوات التدقيق والفحص والتمييز والنقد للنص الأدبي.ولا يملك أدوات إبداعية، هنا يشعر الكاتب بالقسوة والظلم حيث تتعرّض المواهب الفذّة والنصوص الباذخة للتغييب والتهميش. في المقابل هناك العديد من المواهب ما يثني عزمها التردّد والإحجام، وحتى النكوص والارتكاس، ويتوقف عن الانتاج الإبداعي، فلا يبلغ هدفه السامي. ومن العاديّ ما يسود، لانعدام الحدود ،وما للمعايير النقدية من ضوابط وقيود.وهكذا يبدو مصطلح اللغة الشعرية كافتراضٍ من منطلقِ القولِ الشّائعِ والمتداول بأنّها اللغةُ العليا الجزلةُ التي لا تبذ المفارقةُ للغةِ الشّائعةِ المألوفةِ.
لقد انقسم الشعراء والنقّاد قديماً وحديثاً فيما بينهم حولَ تحديد طبيعة وماهية اللغة الشّعريّةِ إلى اتّجاهين وتيارين بارزين . الاتجاه اللأوّل: هم المحافظون على البنية التّقليديّة للشعر كالتّمتعٍ بشرفِ المعنى وصحّته، ومدلوله، واستقامة اللفظ وجزالة الكلمة، والنّأي عن اللغةِ اليوميّة المألوفة ،واللحن في اللغة ،واللغة السّوقية الرديئة.
والاتجاه الثاني: المتحرِّرون من اللغةِ الشّعريّة التّقليديّة المفروضة بثقلها، متجاوزين الفجوة الفاصلة بين اللغة والعصر، كالشاعر أبي العتاهية، وبشّار بن برد ،وأبي نوّاس، وشعراء عصر الإحياء، والرّومانسيين، وروّاد الشّعر العربي الجديد كالشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي، والشاعرالسوري نزّار قبّاني، والشاعر المصري صلاح عبد الصّبور، وغيرهم. لذا يمكننا أن نجد من يعيد تشكيلَ اللغةَ اليوميّة ويضعها في نسقٍ شعري جديد، من خلالِ القلب الدّلالي للمعنى المألوف.
هناك شعراء يعملون على التأكيد على الحالة العامة للغة، إنْ على مستوى التّضمين، وإنْ على مستوى التّحوير في البنيةِ والدّلالة، في صورةِ توليفٍ وتدوير وتوحيدٍ بين الحاضرِ والماضي، وهذا من شأنه أنّ يمنحَ السّياق بعداً دلاليّاً جديداً منسجماً مع الموقف المعاش.
في هذا السياق نجد المبدع يقف على ثقافته ومرجعيّاته المعرفيّة، ويذهبُ إلى أنّ الكثير من المرجعيّات التي تمثّلُ نقطةَ تداخلٍ كبيرة بين المبدعِ والنّصِّ والمتلقي، وهنا نأتي لمسألةٍ شديدة الأهمّية في أنّ إنتاجَ النّصَّ المبدع ليس فعلًا ذاتيّاً مفرداً، بقدرِ ما يتشكّل ويتكوّن في إطارِ شبكةٍ معقّدةٍ من البنى الثّقافيّة والمعرفيّة والدلالات اللغوية ، ولرّبما جاز لنا القول: بأنّ النّصّ الإبداعي شعراً ونثراً هو سلسلة متواليّة من النّصوصِ السّابقة.يسير وفق بعض المناهج النقدية التي تكتفي بعملية الوصف الظاهري الداخلي للنص المبدَع، كما هو متبع في المنهج البنيوي اللساني والمنهج
وإذا كانت بعض المناهج النقدية تكتفي بعملية الوصف الظاهري الداخلي للنص كما هو شأن المنهج البنيوي اللساني والمنهج السيميوطيقي الذي يدرس العلامات أو الأدلة اللغوية وغير اللغوية ، فإن هناك مناهج تتعدى الوصف إلى التفسير والتأويل الهيرمينوطيقي، كما هو شان المنهج النفسي والبنيوية التكوينية ،والمنهج (الهرمونيطيقي) التأويلي كما ذكرنا .
الجدير بالذكر أنَّ النقد الأدبي كان قد ظهر عند العرب منذ عصر ما قبل الإسلام والذي أطلق عليه في العصر العباسي بأنه (العصر الجاهلي) في شكل أحكام ذوقية وانطباعية وموازنات ذات أحكام تأثرية مبنية على الاستنتاجات الخاصة والذاتية ،كما نجد ذلك عند الشاعر الكبير صاحب القصيدة المعلقة على جدار الكعبة النابغة الذبياني في تقويمه لشعر الخنساء وشِعِر حسَّان بن ثابت. كما كان الشعراء المبدعون نقاداً يمارسون التقويم الذاتي وإعادة قراءة النصوص نقدياً من خلال مراجعة نصوصهم الشعرية وتنقيحها من الشوائب واستشارة المثقفين في هذا المجال وأهل الدراية بالشعر كما نجد ذلك عند الشاعر الكبير زهير بن أبي سلمي الذي كتب مجموعة من القصائد الشعرية التي سماها (الحوليات) قيل كان ينظم القصيدة في شهر, ويهذبها في سنة، فكانت قصائده تسمى الحوليات. وكان عمر بن الخطاب شديد الإعجاب بزهير،والحوليات التي تدل على عملية النقد والمدارسة والمراجعة الطويلة والعميقة والمتأنية. وتدل كثير من المصطلحات النقدية التي وردت في شعر شعراء ما قبل الإسلام شعراء (الجاهلية) على نشاط الحركة النقدية وازدهارها .
لقد تطور النقد الأدبي في القرن الأول الهجري وفترة حكم الدولة العباسية مع الشاعر والأديب والفقيه والمحدِّث والمؤرخ ابن قتيبة الذي ألَّف العديد من المصنفات أشهرها عيون الأخبار وأدب الكاتب وغيرها .ومحمد بن سلام بن عبد الله بن سالم الجمحي، صنف كتاب طبقات فحول الشعراء، وكان من أهل الفضل والأدب. والأصمعي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر والبلدان. والمفضل الضبي وكنيته أبو عبد الرحمن كان عالماً لغوياً من علماء القرن الهجري الثاني، وأحد رواة الشعر الأعلام، علامة راوية للأخبار والآداب وأيام العرب صاحب كتاب المفضليات وهو أقدم مجموعة في اختيار الشعر العربي .من خلال مختاراتهما الشعرية وابن طباطبا صاحب عيار الشعر وقدامة بن جعفر والحاتمي في حليته والصولي صاحب الوساطة بين المتنبي وخصومه ،وابن وكيع التنيسي وابن جني والمرزوقي شارح عمود الشعر العربي.
إن المناهج النقدية العربية المتنوعة ولاسيما الحديثة والمعاصرة كانت نتاج المثاقفة والاحتكاك مع ثقافة الغرب والاطلاع على فكر الآخر ورؤاه النقدية عن طريق التلمذة والتعليم والترجمة. وقد ساهم الحوار الثقافي على مستوى الممارسة النقدية المتعدّدة في ظهور إشكالية ثنائية التجريب والتأصيل أو الأصالة والمعاصرة في النقد العربي.
بناءً على ما سبق فقد، فقد ظهر اتجاه نقدي يدافع عن الحداثة النقدية وذلك بالدعوة إلى ضرورة الاستفادة من كل ماهو جديد ومستجد في ساحة النقد الأدبي الغربي ،كما نجد ذلك عند الكاتب والمفكر المغربي محمد بن الغزواني مفتاح محمد مفتاح،المتخصص في فكر المغرب الإسلامي والمناهج النقدية القديمة والمعاصرة.والشاعر المغربي محمد بنيس الذي يعتبرأحد أهم شعراء الحداثة في العالم العربي. ويتمتع بمكانة مميزة في الثقافة العربية. والناقد والأكاديمي والقاص والروائي المغربي حميد لحمداني. الذي كتب عدة مؤلفات في النقد السردي وأعمال إبداعية. ويعدّ خبيراً في المناهج النقدية والدراسات السردية والترجمة. والأكاديمي الشاعر والناقد الروائي التونسي حسين الواد . والأستاذ الجامعي والكاتب والمترجم المصري محمد صلاح الدين عبد السميع فضل.
وهناك اتجاه آخر يدعو إلى تأصيل النقد العربي ،وعدم التسرع في اتخاذ الأحكام السلبية على تراثنا العربي القديم ،ومن هؤلاء الدكتور عبد العزيز حمودة مؤلف كتاب: (المرايا المقعرة)، و(المرايا المحدبة)، وكتاب (الخروج من التيه). لكن هناك من كان موقفه وسطا يدافع عن التراث العربي ويوفق بين أدواته وآليات النقد الغربي كالأديب والناقد المصري الدكتور مصطفى عبده ناصف في كثير من كتبه ودراساته وأبحاثه التي يعتمد فيها على أدوات البلاغة العربية القديمة، والكاتب والروائي المغربي عبد الفتاح كليطو في كتابه الهام بعنوان : (الأدب والغرابة) و(الحكاية والتأويل)، وكتابه الهام بعنوان (الغائب)، والناقد والأديب والأكاديمي السعودي أستاذ النقد والنظرية في كلية الآداب عبد الله بن محمد بن عبد الله الغذامي في كتابيه (المشاكلة والاختلاف) و (القصيدة والنص المضاد).