من المعروف أنّ اللمثقف دور كبير وهام ،هو تجديد الدولة الوطنية ونظام الحكم العصري وانتاح وعي الناس، لأنه قادر على العطاء والإبداع، ولديه ملكات عديدة منها تغيير تصورات الناس لواقعهم وحياتهم المعيشية .إضافةً إلى قدرته على تغيير الذهنيات والمفاهيم في إطار الثقافة المجتمعية العامة. وتحرير الفكر من مجمل المعيقات التي تُقيده.هذا الدور المنوط بالمفكر والمثقف يدفعنا للتساؤل فيما إذا إذا كانا قادرين من خلال مهمتهما تلك من إعادة بناء الفكر العربي الذي يمر بمرحلة جمود وتكلّس، ويعمل على تجديده؟ بخاصة وأنَّ الفكر العربي يتراوح في تياراته المتنوعة بين إسلامية وقومية وليبرالية ويسارية.  

لنعترف بأن الدور الفاعل والمؤثر للمثقف العربي قد تراجع كثيراً بفعل عوامل موضوعية وذاتية، من بينها: حالة النخبوية الزائدة ،والضعف في الحريات العامة ،وفي مراكز التفكير والانتاج الفكري، والضعف الكبير في دور المجتمع الأهلي، إضافةً إلى انتماءات أيديولوجية كثيرة ومتنوعة تمتاز بالتشنج والعصبوية ،وغياب المشروع الفكري والثقافي النهضوي العربي قطرياً وقومياً، والفجوة الهائلة بين التنمية والثقافة مع غياب الأولويات ،زاد عليها تعثر النظم السياسية العربية الذي انعكس على النتاج الثقافي بشكلٍ سلبي، وضعف المأسسة والحوكمة في حياتنا .وأخطر من هذا وذاك هو حالة تخدير الحس النقدي إلخ.لقد كان من المأمول أن يقوم المثقف العربي بدورٍ أكبر لأنه الضمير الحي والشقي في آن معاً، الذي لا يرتاح ولا يركن أو يستكين للأمر الواقع، بل يسعى لتفسيره وتغييره وتوجيهه الوجهة الصحيحة، لكنه اليوم مضطرب قلق وحائر، وغالباً ما نجده في حالة ذهول أمام التحولات البنيوية المتسارعة حوله. 

إذا أردنا أن نعيد بناء الفكر العربي وتجديده بناءً صحيحاً، نحتاج أولاً أن نعرف ما هو موقعنا وأين نقف الآن. وما الذي نسعى الوصول إليه، في القيم والمفاهيم والمنظومات المعرفية والإنسانية، وفي كيفية الاستجابة للصعوبات والتحديات، وتحويلها إلى فرص ممكنة التحقق. 
نعم نحن نعيش مشهداً فكرياً مليئ بالسلبيات والنواقص، ونحن إذ نبحث في ذلك ،يكون فقط من أجل النهوض وتدارك الظواهر السلبية الهائلة المتمثلة في جمود وتكلّس الخطاب الفكري والثقافي العربي في مضمونه وتفاعلاته، فضلاً عن عجزه عن بلورة منظومة معرفية (أبيستيمولوجية) تتفاعل مع العصر، وتتعامل مع تطوراته وتحولاته. تلك القضايا بمجملها تولِّد أسئلةً جديدة تفرض ذاتها بقوة لأنها تتعلّق بقضايا الإنسان العربي وهمومه ومستقبله. وكذلك علاقته بالآخر المختلف والمغاير، وقضايا الديمقراطية والحرية والمشاركة الفاعلة في الحياة السياسية والاجتماعية، وكل ما يخص الدولة الوطنية ونظام الحكم العصري الرشيد. 

وفي المشهد العربي أيضا، تغيب ثقافة التوقع والاستشراف ومحاولة قراءة المستقبل،كما تغيب ثقافة المراجعات،وإعادة النظر في الأمور والقضايا السابقة وفحصها والتأمل فيها. والسعي لدراستها وتقييمها بغية تصحيحها وتطويرها وتحسينها. وضرورة المراجعة تنتج عن مهارة ناتجة عن التأمل والنظر والتفكّر والتدبّر في أحوال الناس بشكلٍ عام .خاصةً في مجالي الزمان والمكان، المتعلقة بالحاضر والغابر والوقائع والأحداث . 
ومن شديد الأسف أنَّ ثقافتنا العربية الراهنة لا تملك القدرة الكاملة على توقع المستقبل واستشرافه، وجميع التحليلات التى قدَّمها مفكرون ومثقفون عرب طيلة العقود الأخيرة لم تتمكن من استشراف المستقبل وقراءة ما سيكون عليه الغد. كما تحضر الذهنية الأنانية التي تنطلق من المنفعة الضيقة البدائية، والنمو المتزايد في الوعي الذاتي (الأنا) الفئوي، والنزوع الشبق للسلطة والجلوس على كرسي القوة والسلطة ومصدر السطوة والهيمنة .إضافةً إلى شهوة الحكم. حتى لو خربت الدولة وهُدمت أعمدة خيمة الوطن وأركانه. كل هذا النزيف المجاني يدعونا نحن أبناء الحياة أن يكون لدينا مفكرون ومثقفون يعملون على تعزيز الدولة الوطنية، بمعايير اجتماعية وسياسية واقتصادية وإنسانية على قاعدة الدولة لكل مواطنيها .والتي تتعامل بقوة العقل والحكمة مع أسئلة العصر الجديدة، في الإدارة الرشيدة للحكم وللموارد والثروات، وفي الاقتصاد المنتج والتقانة والعدل والمساواة والبيئة، ورفاه الإنسان وتحضّره ورقيه ،وتحقيق حقوقه وسعادته، وجودة الحياة، والسلم الاجتماعي وتحقيق الكرامة الإنسانية التي يجب أن لا تمس.
إنَّ اشكالية تجسير الفجوة بين المفكر والمثقف وصانع القرار، وهي إشكالية تحدَّث فيها مفكرون ومثقفون كثر، منذ أكثر من خمسة عقود .ومن أطلق هذا المصطلح من المفكرين والمثقفين، منذ عقود طويلة، لم يكن يطمع أن يكون الجسر المنشود ذهبيا أو من فولاذ،ولا أن يبنى بالتكاذب المتبادل، وإنما بالإرادة السياسية، وبالنوايا الحسنة،وبتوفر الأذن الرحبة والصدر الواسع والقلب الكبير الذي يسمع ويتفاعل، والبيئة المناسبة للحوار والمناقشة بالتي هي أحسن وأفضل لدى دوائر صنع القرار. أما المفكر، فهو الذي يغادر برجه العاجي ليخاطب نبض الناس ويتفهم حالهم وأوضاعهم، ويستشرف لهم المستقبل، ويمتلك المنهج العلمي في تقديم الخيارات المفتوحة والمتاحة، وطرح الأسئلة الاستشكالية التي تفرض ذاتها بقوة، ويُحدث التأثير الإيجابي داخل مجتمعه وواقعه ويغيّره لصالح المواطن، خاصة على صعيد الفكر التنويري والمعرفي والنقدي والعقلاني. لقد غاب هذا الفكر، أو قد تم تغُيِّبه فى العقود الخمسة الأخيرة، فترك فراغا هائلا فى المجتمعات العربية وفي صفوف الجماهير، وعملت الجهالة والتخلّف والظلامية، والغلاة والطغاة، والتخلف الفكري والثقافي ،على ملئه، فكثر اللغو، وعمَّت الفتنة وانتشر الفساد والفاسدين والمفسدين، وتقطعت الروابط والجسور، وحضرت الفوضى بكل معانيها ومنها الفوضى الخلَّاقة. 
في الختام لا بدّ من القول بأننا جادون فيما نطرح وماضون في التفكر في سر الحياة ونجاحها، مؤكدين على ضرورة سعى الإنسان العربي الأبدي نحو التجدد والتطوير والتحديث والتغيير، ونفتح معاً كُوة فى جدار اليأس والقلق والاضطراب ، ونشعل منارة الفكر وهديها، وننشغل دائماً فى التجديد والتطوير والتحديث، استعدادا للإسهام فى صنع المستقبل الأفضل المشرق لهذه الأمة.
calendar_month27/02/2022 09:53 am