
تتعرَّض أوكرانيا لعملية سياسية وعسكرية استراتيجية مفصلية في تاريخها السياسي والاقتصادي. هذه الحرب ستنعكس سلباً على أوكرانيا نفسها وعلى العديد من دول العالم التي تصدِّر لها الحبوب، وبخاصة محصول الذرة الصفراء .فعندما نذكر أوكرانيا يتبادر فوراً إلى ذهننا أنَّ أوكرانيا هي سلة غذاء هامة للعالم. فالجميع يعرف أنَّ جمهورية أوكرانيا لها دور هام جداً في أسواق الحبوب في العالم . وما يجري في أوكرانيا من أحداث ساخنة جعل التجار يعيشون في حالة من القلق فيما إذا كانت الصراعات والتوترات الجيوسياسية مع جمهورية روسيا الاتحادية.يمكن أن تمثل تهديداً حقيقياً للصادرات المحلية للبلاد.
هذه الصراعات الساخنة لو كانت قد حصلت قبل نحو عقدين فقط تعتبرمشكلة كبيرة لأوكرانيا، من الجانب الزراعي على أقل قدير. فقد أشارت التقارير حول النتاج الزراعي الأوكراني بأنها كانت قليلة قبل سنوات عدّة ، لكن التطورات الكبيرة في انتاج الذرة الصفراء على وجه الخصوص سمحت لأوكرانيا باكتساح أسواق التصدير في العالم وتفوقت عليها في الإمكانيات على الموردين التقليديين. وكانت بذلك الولايات المتحدة الأمريكية من أكبر المتضررين. بخاصة وأنَّ أوكرانيا تمثل نحو 16 % من صادرات الذرة الصفراء العالمية ، و12% من القمح العالمي، بعد أن كانت أرقام الانتاج من هذا النوع من المحاصيل ضعيفة جداً في التجارة في بداية القرن الحالي، وتحديداً بالنسبة للذرة الصفراء.
الجدير بالذكر أنّ المحاصيل الزراعية وتحديداً الحبوب لم تنمُ في أعلى البلدان المصدرة للحبوب حول العالم بالسرعة التي نمت بها الذرة الصفراء في العقد الماضي في جمهورية أوكرانيا، وازدادت غلة الذرة الصفراء بنحو 30% في العقد الماضي مقارنة بــ 11% في الولايات المتحدة الأمريكية. وتجاوزت المحاصيل الزراعية في أوكرانيا وتحديداً الذرة الصفراء المتوسط العالمي لأول مرة منذ خمسة عشر سنة، وأوكرانيا الآن تتفوق بشكلٍ كبير على البرازيل ،وأصبحت قادرة على المنافسة مع دولة الأرجنتين. وحقق إنتاج الذرة الصفراء هناك رقماً قياسياً بلغ إثنان وأربعون مليون طن في عام 2021 م، مدفوعاً بالتوسعات الهائلة في الأراضي ونمو المحصول على حساب المواد الغذائية الأوكرانية التقليدية المعروفة، وزيادة الأرباح والاستثمارات الأجنبية الكبيرة.
كما ساعد النمو السريع في صناعة الذرة الصفراء الأوكرانية للمصدرين بجذب انتباه جمهورية الصين الشعبية أولاً في عام 2013 م والتي استحوذت على نحو ست وثلاثون بالمائة من الصادرات لعامي (2020) و (2021)، ارتفاعاً من تسعة عشر بالمائة في العام الذي قبله، على الرغم من انخفاض إجمالي الصادرات بنسبة ثمانية عشر بالمائة بعد موسم حصاد أقل من ذي قبل. وعلينا في هذا السياق عدم التغاضي عما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من حرصها الشديد على جذب الأعمال الصينية لأنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر المصدِّر الرئيسي للذرة الصفراء في العالم. والصين تحتاج لهذه المحاصيل لأنها أكبر مستورد. ومن الضروري التأكيد على أنَّ الذرة الصفراء المنتجة في أوكرانيا غير المعدّلة وراثياً تعتبر أحد العوامل المحتملة لذلك. كما أنها خيار مفضل للمزارعين لكونها لا تتعرض للتلف خلال فصول الشتاء القاسية في أوكرانيا أو في عمليات التخزين .
الولايات المتحدة الأمريكية تمثل ثلث تجارة الذرة الصفراء العالمية، بانخفاض عن الثلثين قبل عشرين سنة فقط. ومن المتوقع أن تسجل صادرات القمح الأمريكية للعام الجاري والذي قبله انخفاضاً قياسياً بنسبة أحد عشر بالمائة من الصادرات العالمية مقارنة بحوالي الربع في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين الحالي.
أثارت حالة عدم الاستقرار وعدم اليقين على الحدود الأوكرانية مع جمهورية روسيا الاتحادية تقلبات السوق في الأسابيع الأخيرة، نتيجة الحشود العسكرية وبدء العمليات العسكرية الروسية المحدودة داخل أوكرانيا، لا سيما في أسعار القمح عالمياً، على الرغم من عدم وجود دليل حتى الآن على تعرّض صادرات أوكرانيا للاضطراب أو احتمالية حدوث ذلك حسب المحللين الاقتصاديين .
ومع ارتفاع أسعار الحبوب العالمية قبل نحو عشر سنوات، ارتفعت أيضاً احتمالية أرباح الذرة الصفراء للمزارعين الأوكرانيين. لذلك عملوا على زيادة مساحة فدانات الذرة الصفراء بحوالي تسعين بالمائة منذ ذلك الحين، وحصدوا العام الماضي 2021 م نحو خمسة ملايين وثلاثمائة ألف هكتار من الأراضي. في المقابل كان الشعير هو الخاسر الأكبر من توسع زراعة الذرة الصفراء، حيث انخفضت المساحة المزروعة بنحو أربعين بالمائة في العشر سنوات الماضية، ومع ذلك، وبفضل نمو المحصول بشكلٍ مضطرد عموماً، وتوسع الأراضي بقي إنتاج الشعير ثابتاً في الغالب ولم يتغيَّر.
من جهة ثانية، أدّت زيادة الحاجة العالمية إلى نمو بنسبة خمس وثلاثون بالمائة في محصول البذور الزيتية في أوكرانيا على مدى عشر سنوات، ثلاثة أرباعها من بذور عباد الشمس. ودعمت قدرة المعاصر الكثيفة في أوكرانيا، والتي أنتجت ثلاث وعشرون مليون طن من الزيوت في عام 2020 م مقارنة بخمسة عشر مليون طن في عام 2015 م، وعشر ملايين طن من الزيوت في عام 2011 م، وأثبتت دور البلاد كأكبر مصدر لزيت عباد الشمس في العالم.
كما أنتجت أوكرانيا محصولاً قياسياً من القمح بلغ نحو ثلاث وثلاثون مليون طن العام الماضي2021، ويقترب من مستويات أستراليا أو محصول القمح الشتوي بأكمله في الولايات المتحدة الأمريكية. بناء على ما سبق، أصبحت محاصيل القمح في أوكرانيا قادرة على المنافسة القوية مع المحاصيل العالمية، كما أنها تتفوق بسهولة على دول الاتحاد السوفييتي السابق بأكمله.
من الواضح أن التوسع في إنتاج محاصيل الحبوب في أوكرانيا كان يركزعلى التجارة العالمية كما يتضح من الزيادة الهائلة في حصة المحاصيل الزراعية التي تصدرها للعالم.فمن بين المصدّرين الأربعة الرئيسيين للذرة الصفراء في العالم، تشحن أوكرانيا الجزء الأكبر من محصولها من الحبوب بحوالي ثمانبن بالمائة سنوياً، والأرجنتين قريبة من ذلك وتصدّر نحو ثلاث وسبعون بالمائة ،وبينما تصدّر البرازيل حوالي ثلث محصولها إلى الخارج، تشحن الولايات المتحدة الأمريكية نحو عشرين بالمائة فقط من الذرة الصفراء إلى دول العالم.
وينتهي أكثر من ثلثي محصول القمح الأوكراني من النوع الجيد في سوق التصدير العالمي، على غرار أستراليا وأكثر بقليل من الأرجنتين، ولكن أقل من انتاج المتوسط الكندي الذي يفوق السبعين بالمائة من الكميات المنتجة، ويقارن ذلك مع ما تنتجه جمهورية روسيا الإتحادية ، أكبر دولة مصدرة للقمح في العالم .