لم تتوقف الدعوات والتصريحات والتحذيرات لمنع نشوب حرب نووية، ترافق ذلك مع الدعوة لتحقيق مفهوم هام جداً هو (قاعدة الاستقرار الاستراتيجي) هذا المفهوم يؤكد على وجود قواعد وأسس تحول دون وقوع حروباً عسكرية كبرى، يمكن أن تشعل حرباً بين القوى التي تملك السلاح النووي، وهو المفهوم الذي تشاركت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق صياغته وضبطه ووضع أسسه.
 ففي هذا السياق المحموم من سخونة الأحداث وتطورها تبرز أصوات تنادي بضبط النفس وتنبِّه إلى ضرورة تحقيق وتجسيد مفهوم الاستقرار الاستراتيجي على الأرض وتنادي بالتهدئة. هذه الأصوات جاءت مصاحبة للتصعيد حول الحرب الدائرة في أوكرانيا، والتي تقف فيها دول الغرب الأوروبي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، ـ دول الناتوـ في مواجهة مع جمهورية روسيا الاتحادية، وكلاهما تتمسك بموقفها، وإن كان الجميع يعترفون بشكلٍ صريح وواضح بأنَّ حرباً نووية معناها الدمار الكامل للطرفين لا شك في ذلك.
 وفقد ظهرت تلك التحذيرات من الحرب النووية في أكثر من دولة ومن أكثر من طرف من الأطراف الضالعة في أزمة أوكرانيا الدولية . حيث أكَّدت القيادة الروسية مراراً، على لسان السيد سيرغي لافروف، وزير خارجيتها، إن القادة في الغرب الأوروبي والأمريكي يثيرون الذعر والهلع والتهويل من إمكان حدوث حرب عالمية ثالثة نووية تكون مدمرة على العالم، وإن الرئيس الأمريكي جو بايدن هو أول من لوّح بإمكان حدوث حرب عالمية ثالثة لها نكهة نووية، وما أعلنه أيضاً السيد أولاف شولتز مستشار ألمانيا، عن استبعاده أي تدخل عسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في هذه المرحلة، حتى لا تقع مواجهة بين دول الغرب وروسيا الاتحادية. وأيضاً تقييم مدير المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية بأوكرانيا ألكسندر بوغو مولوف، من إنه من السابق لأوانه الحديث عن حرب عالمية ثالثة مدمرة للبشرية.كما أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية قد أكّدت على إن الحرب العالمية تقع عندما تحدث مواجهة واشتباك بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، وكانت الولايات المتحدة قد تعهدت بأنه لن ترسل قوات أمريكية إلى أوكرانيا تحت أية ظروف ومهما كانت الأسباب.
 في سياق ما يجري من أحداث ساخنة جاءت الدعوة لإعادة النظر في مفهوم (الاستقرار الاستراتيجي)، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق اتفقا عام 1990م ،قرب انتهاء الحرب الباردة بين الطرفين، على صياغة مشتركة لقاعدة (الاستقرار الاستراتيجي)، في وقتٍ غابت فيه أية دوافع أو نزعات لدى الجانبين للقيام بالضربة النووية الأولى.
لقد أخضع عدد غير قليل من الخبراء المتخصصين في مجال (قاعدة الاستقرار الاستراتيجي) للبحث والدراسة والتدقيق، أبرزهم مدير مركز موسكو في مؤسسة كارينجي الأمريكية البروفيسور ديمتري ترينين، والتي حملت دراسته عنوان : (الاستقرار الاستراتيجي في القرن الواحد والعشرين)، حيث أوضح البروفيسور ترينين فيها أنه منذ تقنين هذا المفهوم، فإن أوضاع القوتين الكبيرتين في العالم، قد طرأت عليها تغييرات أساسية وهامة، ودخلت عوامل كثيرة مؤثرة في صناعة قرار السياسة الخارجية، وأورد أمثلة على ذلك ـ حسب وجهة نظره ـ، فقد أكّد أنَّ جمهورية روسيا الاتحادية تمدّدت في بعض المناطق الإقليمية في العالم، وكان لها تواجداً سياسياً، وعسكرياً، واقتصادياً، وأقامت علاقات متعددة الأبعاد تزيد من قوتها. إلى جانب تأثير صعود جمهورية الصين الشعبية في طموحات الولايات المتحدة الأمريكية، للانفراد بقيادة النظام العالمي، ودخول التكنولوجيا المتطورة والشرائح الذكية والهايتك كأداة جديدة في المواجهات غير العسكرية، التي وصلت إلى حدٍ كبير من التغوّل بهذه الدول من الداخل.
 كل ذلك ساعد بقوة على إضافة عوامل مستجدة لم تكن موجودة في السابق عملت على تغيير أجواء العلاقة بين القوتين الكبيرتين، امتدت إلى مفاهيم منع الحرب بين القوى النووية مهما دعت الضرورة، بما يعني تغيير الظروف المحيطة بمفهوم (قاعدة الاستقرارالاستراتيجي) إلى حدٍ كبير. وقد صاحب تلك الدعوات وتلك المواقف ظهور توجهات محايدة في تفكيرها ترى إن المحافظة على أساس وجوهر معنى وفعالية (الاستقرار الاستراتيجي)، تفرض ضرورة مراجعة الكثير من الآراء والمفاهيم والسياسات المتبعة، بحيث تتوافق مع واقع وظروف وحال القرن الواحد والعشرين، وأن يأخذ ذلك أيضاً في حسبانه وسائل منع أي مواجهات عسكرية مهما كان السبب بين القوى النووية، وأن هذه التغييرات الكبيرة لابد أن تشمل دولاً تملك أسلحة نووية،إن كانت عضواً في النادي النووي أم لا منها كوريا الشمالية، وباكستان ،والهند، وإسرائيل، بما يحافظ على الاستقرار الدولي في غياب أي نظام مستقبلي محكم للرقابة على التسلح.
 صحيح أن جمهورية روسيا الاتحادية أقدمت على خطوة لم تتقبلها معظم دول العالم بالهجوم العسكري على أوكرانيا التي تحولت خلال مدة وجيزة إلى ساحة لتوترات متزايدة بين روسيا والغرب بشكلٍ عام، لكن كان من الممكن تفادي هذا التصعيد المتلاحق من خلال حوار إيجابي وموضوعي بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، بضبط العمليات العسكرية من جانب الحكومة الروسية، وباستجابة الولايات المتحدة الأمريكية لمطالب روسيا بشأن مخاوفها الأمنية والاستراتيجية، وزحف حلف شمال الأطلسي (الناتو) بأسلحته المتطورة جداً، وقواعده العسكرية الضخمة من حول مجالها الحيوي والأمني، خاصة أن الأزمة الأوكرانية قد سبقتها عشرون سنة من توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) تجاه حدود روسيا الاتحادية.
أخيراً يبقى السؤال الملح يفرض نفسه : هل يتقبل الطرفان حلاً وسطاً موضوعياً وعقلانياً، لإحياء العمل بقاعدة الاستقرار الاستراتيجي بشكلٍ جدي ؟ نرجوا ذلك
calendar_month16/03/2022 03:01 pm