
في غمرة التصعيد للأزمة العالمية بين جمهورية روسيا الاتحادية وبين الغرب الأوروبي تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية جبهة هذا الصراع من خلال المشهد الراهن الذي قفز على واقعة سياسية هامة عمرها لا يقل عن خمس وعشرون عاماً يظهر من خلالها التشابه الكبير الذي يصل إلى حد التطابق الكلي بين الأسباب التي شكَّلت تفكير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبين ما سبق تفسيره وشرحه ونبّه إليه آخر رئيس للاتحاد السوفييتي السابق السيد ميخائيل غورباتشوف ،وحدث ذلك بينما كان الرئيس غورباتشوف يخاطب الشعب الأمريكي وقيادته ،في أثناء زيارة له إلى بلادهم.
رؤية الرئيس غورباتشوف قفزت فجأة إلى الذاكرة من خلال مؤتمر استمر لمدة ثلاثة أيام عام 1979، تحدث فيه جميع وزراء خارجية الولايات المتحدة الأمريكية الذين كانواعلى قيد الحياة، عن السياسة الأمريكية في القرن الواحد والعشرين، ثم جاءت كلمة رئيس الاتحاد السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف في اليوم الثالث. وكان وقتها خارج الحكم في بلاده. وبدأ الرئيس غورباتشوف كلمته معترضاً على مسار السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية بوجه عام، وناصحاً بما ينبغي أن تكون عليه علاقتها مع روسيا الاتحادية، وموضحاً أن ذلك في مصلحة الطرفين وسلامة وأمن العالم أجمع.
وزيارة الرئيس غورباتشوف كانت بدعوة من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، الذي استضافه في مزرعته في ولاية تكساس، والمعروف أن إدارة الرئيس بوش الأب كانت تؤكد حرصها على أمن روسيا القومي، وهو ما عبّر عنه علناً وزير خارجيته جيمس بيكر آنذاك مؤكّداً أنَّ بلاده لن تتقدم بوصة واحدة شرقاً في اتجاه المجال الأمني لروسيا. وهو التعهد الذي تنصلت منه الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي (الناتو) فيما بعد، وهو من الأسباب الرئيسية لتشكيل سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التي شملت التصعيد إلى حد القيام بعملية عسكرية جراحية في أوكرانيا، وما أعلنه عن رفضه ومن استيائه لعدم تلقيه رداً إيجابياً من الولايات المتحدة الأمريكية على مطالبه بمراعاة المخاوف الأمنية لجمهورية روسيا الاتحادية .
آنذاك كان اعتراض الرئيس السوفييتي السابق غورباتشوف على مسار تفكير الولايات المتحدة الأمريكية محدداً مؤكداً أنه للأسف الشديد فإن البعض في الغرب والكثيرين في الولايات المتحدة الأمريكية، صوّروا نهاية الحرب الباردة بين الاتجاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة على أنها انتصار لهم، ومعنى هذا أن الوسائل التي اتبعت في فترة الحرب الباردة، ستبقى تستخدم في المستقبل، بما في ذلك اللجوء إلى خيارات القوة العسكرية.
وبعد استعراضه المستفيض للأحداث العالمية الراهنة فإنه توقف أمام نقطة غاية في الأهمية تتعلق ببلاده روسيا، وعلاقات الولايات المتحدة الأمريكية معها، فأشار إلى تقرير كان قد أصدره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في العاصمة الأمريكية واشنطن، جاء فيه توافق في الآراء والقضايا المطروحة من اثنين من أعضاء مجلس الشيوخ، وثلاثة من الرؤساء السابقين للمخابرات المركزية الأمريكية، حول رأي موحد، بأنه لا يمكن التعامل مع جمهورية روسيا الاتحادية، وأنها تمثل (خطراً) على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية.
ثم علق الرئيس السابق غورباتشوف على هذه الرؤية بأنه كان يجب على هؤلاء أن يعلموا بأن روسيا الاتحادية لا تشكل اليوم أو في المستقبل تهديداً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية ، وأنه لا يجب أن تقوم الاستراتيجية الأمريكية تجاه روسيا الاتحادية على إضعافها، لأن ذلك ليس في مصلحة الولايات المتحدة، باعتبار ذلك تفكيراً خاطئاً وخطيراً.
واستعاد آخر رئيس للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف ما يعرفه عن رأي مخالف لهؤلاء، كان لوزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر – الذي تحدث قبله في هذا المؤتمر – عن أهمية التبادل والتعامل مع جمهورية روسيا الاتحادية ، وضرورة قبول وتفهم دور روسيا الاتحادية، ثم قال: (إن بناء السياسات والتوجهات للمستقبل على منطق القوة ليس خياراً سليماً أبداً).
وما إن اختتم غورباتشوف كلمته حتى دوت القاعة الكبرى التي احتشد فيها أكثر من أربعة آلاف شخص من خيرة الخبراء والمتخصصين ، بتصفيق متواصل، وكانت أكثر المواقف التي كانت مقبولة قد لقيت تصفيقاً أشد حرارة، تلك التي رفض فيها فكرة (القوة العظمى الوحيدة)، مفهوم الولايات المتحدة الأمريكية رجل الشرطة للعالم.
إن تلك المواقف كانت مواقف استراتيجية لا يمكن تجاوز أهميتها وهذا ما قاله الرئيس غورباتشوف قبل نحو خمس وعشرين عاماً، يبدو الآن مثل مرآة تنعكس عليها ملامح الأزمة الحالية بين جمهورية روسيا الإتحادية والولايات المتحدة الأمريكية.
خاصة وإن كان الرئيس الروسي فلاديميربوتين قد عبّر مراراً عن وجهة نظره بعبارات تكاد تتطابق مع ما أبداه الرئيس السابق للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف من مخاوف ونصائح، فإن بوتين شكا في الفترة الأخيرة مؤخراً – وقبيل اشتعال الأزمة الحالية حول أوكرانيا – من تشخيص الغرب الأوروبي الأمريكي لنهاية الحرب الباردة، على أنه انتصار لهم، خرجت منه روسيا الاتحادية مهزومة، وتحديداً بعد انتهاء الاتحاد السوفييتي السابق وإنهم يتعاملون معها منذ ذلك الحين باستهانة وغير تقدير، وكأنها في حساباتهم مجرد دولة إقليمية لا وزن لها ولا قوة، وكرّر رفضه لعدم استجابة الولايات المتحدة الأمريكية لمخاوف بلاده الأمنية ولاستراتيجية الأمن القومي، وعدم التزام الولايات المتحدة الأمريكية بتعهدها في عام 1993م، بأن حلف شمال الأطلسي (الناتو) لن يتمدد شرقاً في اتجاه الجمهوريات التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، والتي تعتبر الحديقة الخلفية لأمن روسيا القومي. وذلك كله كان يلخص إحساساً لدى القيادة الروسة وشعبها بأن الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل مع من كانوا أعداء بالأمس، وكأنهم سوف يبقون أعداء دائمين ولن تتغير تلك المواقف.