في أي حرب تجري بين الدول في العالم يكون من بين أهدافها الاقتصاد. وما يشهده العالم اليوم من حربٍ ساخنةٍ بين روسيا وحلفائها، وبين أوكرانيا وحلفائها، هي حربٌ اقتصادية أوجدت صدمة هائلة خارجية لأسواق المال العالمية. والأهم من ذلك أنها صدمة لبنية الاقتصاد الحقيقي في العالم. هذه الصدمة تم تصنيفها حسب المصطلحات المالية بــ (البجعة السوداء) ،وتعني حدثاً نادر الوقوع وغير محسوبة المقدمات والنتاىج ، ويمكن أن يكون للحرب عواقب وخيمة وصعبة على المدى القصير والطويل على اقتصاديات العالم. فهذه الحرب لها تداعيات كبيرة ستظهر في أعقاب شهر منذ بدايتها.ولأنها صدمة خارجية ستكون تداعياتها أيضاً على المستوى السياسي، لأنه يبدو من المؤكد أن زمن عائد نهاية الحرب الباردة وتفكيك الاتحاد السوفييتي السابق قد انتهى.
قدرة الاقتصاد العالمي تعتمد على امتصاص صدمة الحرب الروسية - الأوكرانية واستطالاتها وتداعياتها على توفير المواد الخام. في الوقت الحالي، بعد نحو شهر على بداية الحرب الساخنة، لا تظهر الأسواق أي علامات على وجود مخاطر كبيرة وشاملة. لأنَّ المعيار الأساسي لاختيار الأصول التي سيتم الاستثمار فيها مرة أخرى هو استقرار النظام السياسي للدولة بشكلٍ عام واحترام سيادة القانون.فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991م، تحوَّل العالم إلى منظومة العولمة، مما سمح للبلدان الصاعدة بالتطور، والبلدان المتقدمة بالوصول إلى مستوى غير متوقع من الازدهار والتحضّر وتكوين الثروات. فقط توزيع الثروة والطاقة والأثر البيئي كانا يمثلان إشكالية كبيرة. ويعزى ذلك إلى وفرة الطاقة من نفط وغاز وفحم حجري وأمن إمداداتها. وقد أدى ذلك إلى التركيز المباشر على المهام والعمليات ذات القيمة والقيمة المضافة العالية، مع الاستعانة بمصادر خارجية متعدّدة لأنشطة ذات هوامش منخفضة وكثيفة رأس المال إلى البلدان الناشئة والتي هي في طور التنمية .
 ومما لا شك فيه أنَّ الاقتصادات الغربية تمتعت بوفرة في المعروض من المالية العامة. أما البنوك المركزية في العالم ، فقد كافحت من أجل تحقيق هدف التضخم عند 2%، كان عليها فقط ضمان عدم انهيار الطلب عندما يتم تصحيح الاختلالات التي حصلت فجأة، لأنَّ ذلك يؤدي إلى ركود اقتصادي مستفحل، كما حدث في عام 2000 إبان (أزمة الإنترنت)، و ما حدث عام 2008 إبان (أزمة الإسكان والأزمة المالية)، وما حدث في عامي2011 / 2012 إبان (أزمة منطقة اليورو) وما حدث نتيجة جائحة كورونا عام 2020.إنَّ هذه الحرب التي شغلت العالم وعملية الاستجابة الغربية لجمهورية روسيا الاتحادية، تشير بقوة إلى نظام جديد من الاقتصادات المقيَّدة بالعرض، حيث الدولة منتشرة في كل مكان وتتدخل بشكل مفرط في شؤون ليست من شؤونها فقد كان اندلاع الحرب في أوروبا مفاجأة كبيرة للمستثمرين، ومن المفارقات الغريبة أنَّ مفاجأة ثانية وأكبر كانت رد فعل حكومات الدول الغربية، خاصة بالنظر إلى اعتماد القارة الأوروبية على مصادر الطاقة الروسية من نفط وغاز وفحم حجري.مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن الهدف الأساس والأوَّل من العقوبات التي فرضتها الحكومات الغربية على روسيا هو نبذها اقتصادياً وحصارها،وهنا يضطر المرء إلى ملاحظة النتيجة غير المقصودة لهذه الإجراءات القاسية، وهي أن المستثمرين الغربيين الذين لديهم مطالبات اقتصادية وتجارية ،أو حصص في الشركات الروسية سيتحملون خسائر كبيرة لم يتوقعوها.
وهناك مفاجأة أخرى غير متوقعة تمثلت في قيام الشركات الغربية الكبرى والشركات متعددة الجنسيات بالإعلانات عن المقاطعات أو خطط الانسحاب من جمهورية روسيا الاتحادية. هذا السلوك مثير للدهشة؛ لأن الوضع القائم على الأرض في أوكرانيا غير مؤكَّد إلى حدٍ كبير، وقد تكون مدة الحرب والنتائج المحتملة لهذا الصراع الدامي والمأساوي متباينة بشكلٍ كبير. ربما يكون هذا الاندفاع المتسارع نتيجة للأهمية الموضوعة والقصوى حالياً على العوامل والظروف البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات الكبرى في الاقتصادات الغربية.
 إن السلطات التي لها دور الإشراف والامتثال الكامل للمشاركين في النظام المالي الذي يتم استخدامه كأداة قوية للحرب الاقتصادية ،مجبرة على تصفية الأصول الروسية والتي في الحقيقة لم تتضاءل قيمتها الأساسية والجوهرية بالضرورة بأسعار زهيدة نوعاً ما - إذا كان من الممكن تصفيتها بشكلٍ نهائي. في الوقت الحالي، هذه العقوبات الغربية ستسهل تحويلاً هائلاً للثروة إلى المستثمرين الروس أولاً ،أو إلى المستثمرين في ولايات قضائية لا تتأثر بإجراءات الانتقام من قبل دول الغرب الأوروبي ـ الأمريكي. 
يبدو أن دول الاتحاد الأوروبي هي الخاسر الأكبر في نقطة التحوّل التاريخية التي تشهدها وتعاصرها. لقد تبنت سياسات ومواقف جعلتها تعتمد على الولايات المتحدة الأمريكية في دفاعها، وعلى جمهورية روسيا الاتحادية لإمدادها بالطاقة، وعلى جمهورية الصين الشعبية في السلع المصنعة منخفضة القيمة المضافة.لذا فإنَّ دول الاتحاد الأوروبي سيتعيَّن عليها الاستثمار في استقلال الطاقة، من خلال ضرورة امتلاكها لمصادر الطاقة المتجدِّدة، وفي الدفاع عن نفسها على وجه الخصوص. من أجل تمويل هذه الجهود، وتحقيق ما تنشده سيتعين بالتأكيد التخلص من ميثاق الاستقرار، والتقشف والنمو في الميزانية ةوإعادة جدولتها، اللذين كان من المفترض أن يتم إحياؤهما والعمل بهما بعد فترة وباء كوفيد 19 (كورونا). سيتعين على دول الاتحاد الأوروبي استخدام جميع الروافع المالية والإنفاق العام للخروج من مأزقها الكبير المزدوج. وبالتالي يبدو ظهور سياق جديد لسياسة الاقتصاد بشكله الكلي. ونتيجةً لذلك، فإنَّ الإمدادات في العديد من المناطق والمدن والقرى والبلدات داخل البلدان الديمقراطية في الغرب الأوروبي ستكون مقيَّدة بالحاجة إلى زيادة الاستثمار بشكلٍ أسرع بكثير في نقل الطاقة، والسلع الأساسية والدفاع. من هنا سيتعين على البنوك المركزية القوية في العالم أن تدير سياستها النقدية بشكلٍ تدريجي، وهي في هذا السياق الجديد، يجب ألّا تدعم الطلب بهذه القوة. كما فعلت في ظل الجائحة من قبل.
في الحقيقة يمكننا أن نرى كيف أنَّ العالم ينتقل من نظام توزيع أرباح السلاح حيث يتم قبول الاعتماد بشكلٍ واضح وجلي على الدول غير الديمقراطية من أجل تحسين تخصيص رأس المال، إلى نظام الاكتفاء الذاتي في السلع الضرورية والخدمات الأساسية الاستراتيجية، والذي يعني حتماً فرض ضريبة الاستقلال والدفاع.
وهكذا نجد أن خطة الدولة من الآن فصاعداً، كيف ستتدخل في معظم المجالات، مما قد يغير بسرعة غير مسبوقة ربحية الصناعة بين عشية وضحاها، إذا تطلبت الحاجات والضرورات الجماعية والاستراتيجية ذلك.
calendar_month08/04/2022 11:52 am