يبدو أن الحرب الروسية _ الأوكرانية قد بدأت ترخي بظلالها على معظم دول العالم ولا سيما أوروبا . فعلى الرغم من حالة توحيد مواقف الدول الأوروبية بشكلٍ صارم تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا، على الرغم من أنّ حكوماتها تتخذ يوماً بعد يوم المزيد من العقوبات والإجراءات الصارمة المالية والاقتصادية على روسيا، فإنه من الواضح أن هناك فاتورة كبيرة، لن تدفعها روسيا وأوكرانيا لوحدهما، وهما البلدان المعنيان مباشرةً بالحرب العسكرية، لكن المواطن الأوروبي العادي بدأ هو الآخر يدفع قسطاً لا بأس به من فاتورة تلك الحرب، بشكلٍ مباشر، من حياته المعيشية اليومية، كما أنّ هذه الحرب وانعكاساتها السلبية في مجال الطاقة، وما يتصل به، جاءت قبل أن يتسنى للأوروبيين أن يتنفسوا الصعداء بعد تراجع جائحة كوفيد ١٩(كورونا) واستحقاقاتها .
 يتفق الاقتصاديون اليوم على أن ازدياد معدلات التضخم عن خمسين بالمائة من الأسعار الأساسية هو مؤشر على كارثة اقتصادية كبرى قادمة لا محالة ، وبالفعل، فقد جرى التقنين في بيع بعض المواد الأساسية المستوردة والتي لها تأثير كبير على العديد من أمور الحياة العامة. فقد بلغ مستوى التضخم في الكثير من السلع الأساسية الضرورية في الحياة المعيشية اليومية هذا الحد الذي تم وصفه في مواقع التواصل الاجتماعي ب(الكارثي)، خصوصاً السلع الغذائية، وهي مرتبطة بشكل وثيق بارتفاع أسعار الطاقة من نفط وغاز وفحم حجري ، فكل مراحل الإنتاج والنقل للسلع الغذائية بكل أنواعها تعتمد على الطاقة، وأي زيادة في الثانية تطال الأولى بشكل اوتوماتيكي، كما أن حياة المواطن الأوروبي العادي، في ظل المناخ الأوروبي الذي يجتاحه البرد القارس معظم أيام السنة، تحتاج إلى مستوى من الأمن، ليس في إمدادات الطاقة من نفط وغاز وحسب، بل أيضاً في أسعارها.
 مراكز الأبحاث، ومكاتب الإحصاء الوطنية، والجمعيات الخيرية، في عدد من الدول الأوروبية، تتوقع ازدياد عدد الفقراء والمحتاجين، ففي بريطانيا وحدها، هناك مخاوف كبيرة من انضمام حوالي مليون وثلاثمائة ألف بريطاني إلى عداد الفقراء والمحتاجين فضلاً عن المشردين والذين لا مأوى لهم ، وحوالي الثلثين من البريطانيين اشتكوا من تأثير موجة الغلاء الأخيرة، وانعكاساتها المباشرة على نمط حياتهم المعيشية ، وتمتد هذه الحال إلى معظم الدول الأوروبية، مع الأخذ بالحسبان إمكانات كل دولة على حدة، وناتجها القومي الإجمالي، ودورة إنتاجها السنوية، وقدرة المؤسسات الحكومية على التدخل من أجل لجم ارتفاع مستوى التضخم، أو التقليل من آثاره المعيشية والاجتماعية وانعكاساتها النفسية القاسية. إذ لا يمكن في هذا السياق المقارنة بين جمهورية ألمانيا الاتحادية واليونان، على سبيل المثال لا الحصر، لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن التضخم غير مؤثر في ألمانيا، بل ربما يكون مؤثراً بشكل أكبر في بعض السلع، خصوصاً منتجات القطاع الزراعي، حيث تستورد ألمانيا حوالي ثلثي احتياجاتها من المنتجات الزراعية من الخارج. ومعظمها من أوكرانيا. 
من الواضح أنّ انعكاس الحرب الدائرة الآن في بعض القطاعات، مشابهة لانعكاسات جائحة كوفيد ١٩ (كورونا)، فقطاع السياحة على سبيل المثال، وكل ما يرتبط به من خدمات، لم يتعاف مما أصابه من أضرار جسيمة خلال العامين الماضيين، لكنه الآن مرشح لتلقي ضربة جديدة يُتَوَقع أن تكون عنيفة. إذ إنّ قطاع السياحة هو من أوائل القطاعات التي تصاب بالضرر البالغ نتيجة ارتفاع مستوى التضخم، الأمر الذي سيلقي بأعباء إضافية على كاهل المستثمرين
 والمُشغّلين والفئات العاملة في هذا المجال، ومن المؤكد أيضاً أن تأثيرات التضخم ستطال بشكلٍ أكبر الدول الأوروبية التي يشكّل قطاع السياحة فيها ركناً هاماً وعصباً رئيسياً في اقتصاداتها، من مثل إيطاليا والبرتغال وإسبانيا .
 من الناحية العملية، تواجه الحكومات تحديات كبيرة غير مسبوقة للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي، والحياة المعيشية للمواطنين وعدم دفع الأوضاع نحو أزمات اجتماعية وإضرابات عمالية كبيرة، قد تشلّ بعض القطاعات، لكن الأوضاع الحالية هي الأسوأ منذ عقود طويلة نوعاً ما . ففي ألمانيا، أعلن (المكتب الوطني للإحصاء) في نهاية شهر آذار الماضي، أن التضخم الراهن هو الأسوأ منذ أربعين عاماً، لكن حزمة الحلول التي تم وضعها والتي يمكن اللجوء إليها من قبل الحكومة لا تبدو فعالة كفاية، ما دفع ،(مجلس الحكماء) الاقتصاديين، وهو مجلس رفيع المستوى الذي يقدم مشورته للحكومة، إلى التوجه مباشرةً إلى المواطنين، والطلب منهم التقنين و (شد الأحزمة)، بما يتعلق بترشيد استهلاك الطاقة، ومحاولة خفض معدلات الاستهلاك إلى الحد الأدنى الممكن.
 هناك أصوات عديدة في أوروبا تقول إن العمل الأساسي كان يجب أن ينصب على منع اندلاع الحرب بأي شكلٍ من الأشكال، وأن العمل السياسي والدبلوماسي وطبيعة العلاقات الدولية لم يُعطَ حقّه لتجنب الكارثة واستتباعاتها ، كما أن عدد لا بأس به من الحكومات الأوروبية لم يكن بإمكانها التعاطي مع الانعكاسات الاقتصادية السلبية لجائحةكوفيد ١٩ ( كورونا)، لو أنها لم تتلق حزم مساعدات مجزية من الاتحاد الأوروبي، خصوصاً من الدول القوية والتي تتمتع باقتصاد قوي ، لكن الأوضاع الحالية تلقي بظلالها على الجميع، وأن استمرار الأوضاع الراهنة، سيكرّس فوارق شاسعة بين الدول والشعوب الأوروبية، شئنا أم أبينا ويزيد من هيمنة دول على أدول خرى.
 مكتسبات دولة الرفاه، والرخاء، والمتعلقة بتأمين حد معقول من الأمن الغذائي والأمن المعيشي والصحي للمواطن الأوروبي، تواجه تحديات عديدة،لم تكن موجودة في زمن الوفرة. فتراجع الإنتاج يعني بالضرورة تراجع العوائد الضريبية، وزيادة أعداد الفقراء والمحتاجين للمساعدات، كما أن حزم المساعدات المقدمة للمحتاجين لن تكون قادرة في ظل التضخم الحالي على توفير الأمن المعيشي المطلوب كما كانت عليه قبل اندلاع الحرب .
المراقب الدقيق لمجريات العمليات العسكرية والسجالات السياسية يدرك تماماً أن الحرب لن تتوقف قريباً، وأن انعكاساتها السلبية ، ستفرض خيار شد الأحزمة وهذا الخيار ممكن لفترة محدودة، لكنه لن يصمد أمام حرب طويلة الأمد.كل ما نرجوه أن يعم الأمن والأمان والسلام. في العالم أجمع .
calendar_month13/04/2022 05:09 am