
هناك الكثير من الأحداث التي تظهر فجأة على السطح قلبت مشهد الحرب في أوكرانيا رأساً على عقب. وحوِّلت القلق والتوتر في أوروبا الشرقية إلى صراع دولي محموم ومكشوف على الجميع، فقد كان لإعلان فنلندا ومملكة السويد قرارهما بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) دورٌ كبيرٌ في تغيير معادلات الصراع ، فقد أضاف ذلك القرار أزمات جديدة على المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني والاستراتيجي. تلك الأزمات ربما تعيد رسم خرائط العالم من جديد ،وتتطوّر لأن تؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة، ربما تحيل العديد من الدول إلى رماد، وتلك الدول لن تعرف العنقاء بعد ذلك. لأنَّ ما سيحدث سيسبب وبالاً ودماراً غير مسبوقين على البشرية بأجمعها .بخاصة في سياق التلويح لاستخدام الأسلحة النووية.
الجدير بالذكر أنَّ فنلندا كانت جزءاً لا يستهان به من الإمبراطورية القيصرية الروسية قبل العام 1809 م، وكانت قد استقلت عنها بعد الثورة البلشفية عام 1917م التي قادها فلاديمير إيليتش لينين ،وقائد الجيش الأحمر ليون تروتسكي، وبقيت على الحياد في الحرب العالمية الثانية التي بدأت في الأوّل من أيلول من عام 1939م في أوروبا ،وانتهت في 2 أيلول عام 1945 م . وكانت مع مملكة السويد المجاورة مناطق فاصلة، ولم تشاركا في الحروب الدامية ضد روسيا، على الرغم من أن النمط الغربي يغلب على طبيعتهما الحياتية أكثر من تأثرهما بالنمطية الشرقية ومفاهيمها ونهجها، أو تأثرهما بالنمطية الروسية، سواء في التعامل مع الوقائع والمجريات السياسية والعسكرية المتلاحقة، أو في طبيعة إدارة الحكم والسلطة فيهما. وإذا كانت مملكة السويد التي تُشاطئ غالبية الشمال الغربي لبحر البلطيق الممتد بين النرويج والدانمارك من الشرق والمملكة المتحدة من الغرب وألمانيا وهولاندا وبلجيكا وجزء من فرنسا من الجنوب .يتصل بحر الشمال ببحر البلطيق عن طريق سكاغيراك ومنه لخليج كاتيغات المتصل بالبلطيق، كما يتصل بحر الشمال بالمحيط الأطلسي من الجنوب عن طريق مضيق دوفر ومنه إلى القنال الإنكليزي ومن الشمال عن طريق البحر النرويجي. فإنَّ مملكة السويد بعيدة جغرافياً عن الحدود الروسية، لكن نجد فنلندا تتمدد داخل المجال الحيوي الروسي بشكلٍ كبير، وتتشارك معها فيما يقارب 1300 كلم من الحدود، إضافةً إلى أنها قريبة جداً من القواعد الروسية الحساسة والتي تحتوي على أسلحة نوعية للغاية، لاسيما بالقرب من القطب المتجمد الشمالي.
غالبية المسؤولين الكبار في القيادة الروسية يؤكدون أن لا نيّةً لجمهورية روسيا الاتحادية بتوسيع الحرب التي تجري في أوكرانيا، وأن هذه الحرب فُرضت على بلادهم لأسباب جيواستراتيجية وجيوسياسية، ودفاعاً عن الأمن القومي لروسيا، هؤلاء القادة يؤكدون دائماً أن جمهورية روسيا الاتحادية كانت جادّة في المفاوضات التي حصلت بين الجانبين على الأراضي البيلاروسية وفي استانبول في تركيا بعد نشوب الحرب، وهدفها الأول المعلن كان الحصول على ضمانات مؤكدة تمنع أوكرانيا من الدخول في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالتالي وصول حلف (الناتو) إلى الحدود الروسية. لكن خضوع القيادة الأوكرانية للإرادة الأمريكية والبريطانية بالدرجة الأولى – كما يقول الروس - منعت هؤلاء من الموافقة على الحل المطروح، وشجعتهم على متابعة الحرب على الأراضي الأوكرانية لاستنزاف طاقات روسيا على الصعيد العسكري والاقتصادي والمالي والسياسي، ولاستكمال تطويقها استراتيجياً بشكلٍ كامل.
إنَّ دخول فنلندا ومملكة السويد في عضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، يعني وصول قوات الحلف إلى الحدود الروسية من الجهة الشمالية الغربية، وبالتالي التضييق شبه الكامل على التحركات الروسية في بحر البلطيق الذي يعتبر متنفساً حيوياً للاقتصاد الروسي، بخاصة في مجال تصدير الغاز والنفط ، كما أنَّ وجود حلف (الناتو) في السويد، سيعطل أهمية (جيب كالينينغراد) الروسي في قلب أوروبا، و(جيب كالينينغراد) هي مدينة روسية في الكيان الفدرالي الروسي يطلق عليها اسم (كالينينغراد) أو(بلاست)، وهي أرض حبيسة تحيط بها بولندا وليتوانيا وبحر البلطيق. وهذا الجيب يقع مقابل السواحل السويدية، وسيصبح الوصول الروسي إليه صعباً ومعقداً، وكما سيصعب الوصول إلى القواعد الصاروخية النوعية والبحرية الروسية المنتشرة على أرضه وفي مياهه، وستصبح شبه محاصرة. ومما لا شك فيه، فإن تخلي مملكة السويد وفنلندا عن حيادهما الذي اتبعوه لعشرات السنين، سيقوي شكيمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) عسكرياً، وسيؤدي إلى فرض مزيد من الاختناق على الاقتصاد الروسي الذي يتنفس بقوة من الرئة الشمالية – الغربية الممتدة لمساحاتٍ هائلة . وهذا ما سينعكس سلباً على الأسواق الروسية التي استطاعت أن تتجاوز الصدمة الأولى التي نتجت عن العقوبات الغربية القاسية التي فرضت عليها.
إنَّ المتابع لمجريات التطورات السياسية الدولية الجارية يدرك تمام الإدراك اهتمام الرئيس الأمريكي جون بايدن بشكلٍ شخصي بإتمام عملية انضمام فنلندا ومملكة السويد إلى حلف الناتو، من خلال دعوته لرئيسي وزراء البلدين إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، يدل على عزم غربي واضح، وخصوصاً الجهود الأمريكية الساعية لمحاصرة روسيا والعمل على تذليل الاعتراض التركي على انضمام الدولتين إلى الحلف، يقابله تصعيد واضح في لهجة التهديدات الروسية من جراء إتمام هذه الخطوة التي تعتبرها خطوة خطيرة وممكن أن تؤدي إلى تغيير في الخارطة الجيوسياسية في العالم.
في هذا السياق المحموم يمكننا أن نؤكِّد بأنَّ مخاطر الحرب في أوكرانيا تخطت الإقليم الشرقي لأوروبا، ووضعت القارة الأوروبية برمتها على فوهة بركان قد ينفجر في أية لحظة، وأنَّ المحاولات الفرنسية والألمانية في تخفيف حدة الاحتقان السائدة، لم تنجح حتى الآن، وقد اضطرت الدولتان المعتدلتان فرنسا وألمانيا إلى الشروع في تنفيذ العقوبات ضد جمهورية روسيا الاتحادية، وإلى طرد عدد كبير من الدبلوماسيين الروس من بلديهما، وهما يفتشان عن بدائل للغاز الروسي، وبالتالي الاستغناء كلياً عن واردات الطاقة الروسية. وفي هذا الشأن قرّرت المفوضية الأوروبية إنشاء صندوق مالي لدعم المجهودات العسكرية الطارئة بقيمة نصف مليار يورو، وهي تدرس خطة لتأسيس قوة عسكرية أوروبية تساعد قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) فيما لو تعرَّض أمن أوروبا للخطر.
هذه الأحداث الساخنة والمتدحرجة والتطورات المتلاحقة التي تحصل على الساحة الأوروبية تؤكد أنّ صراعاً دولياً كبيراً يجري، وقد يتفلَّت من القيود والضوابط ومن كل الحسابات، وقد يسبِّب ويلات للبشرية برمتها لا تحمد عقباها، وأولها أزمة النقص في المواد الغذائية التي بدأت تلوح بالأفق والتبشير بانتشار الفقر والجوع في العالم.