
الروح عَالمٌ بذاتهِ لا أحد يعلم ماهيتهُا، ولا طبيعتها، ولا أسرراها، حتي أعظم الثقلين على وجه البسيطة سيد الأنبياء، والمرسلين لم يكن لديهِ علمٌ بِعالم الأرواح، وحينما سُئل عن الروح انتظر الاجابة من أمين وحي السماء وأعظم الملائكة جبريل عليه السلام فنزل بالجواب الحاسم، الجازم الذي لا فصال فيه ولا نقاش فيه من عند رب العالمين في قولهِ سبحانه وتعالى: " وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا"؛ إنهُ عالمٌ سري خفي يسري فينا، ونحيا بهِا، ولكن لا يستطيع نبيٌ مُرسل، ولا ملك مقرب أن يعرف شيئًا عن ماهية تلك الروح إلا من خلقها الله جل جلاله؛ ومن أعظم ما يمكن قوله أن الإنسان قد كُّرِّم أعظم تكريم من خالقهِ سبحانهُ بالنفخة الإلهية من روح الله، فإن تعالت النفس البشرية، والتزمت بما خُلقت من أجله وسارت على الصراط المستقيم، وعلى النهج القويم، ثم كان لها طيب الأثر بين البشر، وغرست أطيب الثمر ، وتسامت وسامحت، وأحبت، وما جرحت، وما قتلت، وما ظلمت، وسارت بين العباد جابرةً للخواطر ، مثل نهر جارٍ ، وبحرُ مرسل من عمل الصالحات، والخيرات، وبعد ذلك تغشاها رحمة الله، وفضله، وكرمه فترتفع مقام تلك الروح الإنسانية إيمانيًا لتصل درجة أقرب منها للملائكة، وإن كانت تلك الروح في تلك النفس البشرية اتبعت هواها وظلت، وظلمت، وتكبرت، وتجبرت تنزل منزلة دونية سُفلية، ومرحلة انحطاط، فقد أغرقتها، وغرتها الحياةُ الدنيا وزخارفها، ونسيت رسالتها الخالدة في هذه الحياة الدنيا التي خُلقت من أجلها، وهي عبادة رب العالمين. وتبقي الروح أمرٌ غيبي لا أحد يمكن أن يعلم أي شيء عنها غير ما أخبر عنه رب العالمين؛ وبينهُ لنا نبينا صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق؛؛ ومعلوم أن الروح موجودة في جسد الإنسان من أخمص قدمة إلى مفرق رأسهِ، وحينما تحضر الانسان المنَية تبدأ تلك الروح إن كانت طيبة تخرج إلى دار القرار، وجنات النعيم، وترى ما لا يراه الأخرون من حولها، فتبدأ عندها مرحلة حياة الأخرة،، والروح لا تموت لكن النفس هي التي تموت ودليل ذلك قول الله عز وجل "كل نفس ذائقة الموت"، أما الروح فإنها لا تموت لأننا لا ندرك كنهها، وبالتالي فإنها تصعد إلى بارئها وتبقي الروح عالم مجهول بالنسبة لنا إلا ما علمناه في الإسلام من أن الروح خلق من أعظم مخلوقات الله شرفها الله وكرمها غاية التشريف والتكريم فنسبها لذاته العلية في كتابه القرآن. قال الله تعالى: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ "، ومن عظمة هذا التشريف لهذا المخلوق أن الله اختص بالعلم الكامل بالروح فلا يمكن لأي مخلوق كائن من كان أن يعلم كل العلم عن هذا المخلوق الغيبي إلا ما أخبرنا بهِ الله سبحانهُ وتعالى من خلال رُسله وكُتبه السماوية وأعظمها القرآن الكريم الخالد ليوم الدين؛ ولنا هنا وقفة مع تفسير قوله سبحانه وتعالى: "فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ"، أي : فلهم روح وريحان ، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما جاء في الحديث الصحيح : أن ملائكة الرحمة تقول" : أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان، ورب غير غضبان"؛ قال علي بن طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: فروحٌ ) يقول : راحة، وريحان ، يقول : مستراحه أي إن الروح بمعني : الاستراحة والراحة من الدنيا. وقال سعيد بن جبير ، والسدي : الروح : الفرح، وروح وريحان ) : جنة ورخاء، ورزق"؛ وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة ، فإن من مات مقربا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة، والفرح والسرور والرزق الحسن، وجنة نعيم .وقال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة ، فيقبض روحه فيه؛ وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه "؛ وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ". قَالَ: "فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ " قَالَ: "فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ". قَالَ: "فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ". قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ: "فَيَرَاهُمَا جميعا". قال قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا، وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة؛؛؛ وختامًا جاء في قوله جل جلاله: " قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي"، وهذا دليل على خلق الروح ، أي : هو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله - تعالى - ، مبهمًا له وتاركًا تفصيله، ليعرف الإِنسان على القطع عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها، وإذا كان الإِنسان فى معرفة نفسه هكذا ، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وكلمة الروح في القرآن الكريم تُطلق على عدة أمور منها روح الإنسان، وروح القدس جبريل عليه السلام، وعيسي ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام؛؛ وتبقي الروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه ؛ ولقد أبدع الإِنسان فى هذه الأرض ما أبدع ، ولكنه وقف حسيرا أمام ذلك السر اللطيف - الروح - لا يدرى ما هو؟ ولا كيف جاء؟ ولا كيف يذهب؟ ولا أين كانت، ولا أين سيكون، إلا ما يخبر به العليم الخبير فى التنزيل، وقال بعض العلماء : "وفى هذه الآية ما يزجر الخائضين فى شأن الروح ، المتكلفين لبيان ماهيته ، وإيضاح حقيقته ، أبلغ زجر ، ويردعهم أعظم ردع"، وقد أطالوا المقال فى هذا البحث ، بما لا يتسع له المقام، بل كله من الفضول الذى لا يأتي بنفع في دين أو دنيا؛ دامت أرواحكم طيبة في الدنيا والأخرة ومن أصحاب الروح والريحان والفوز بالجِنان.
الباحث، والكاتب، والمحاضر الجامعي، المفكر العربي، والمحلل السياسي
الكاتب الأديب الأستاذ الدكتور/ جمال عبد الناصر محمد عبد الله أبو نحل
عضو نقابة اتحاد كُتاب وأدباء مصر، رئيس المركز القومي لعلماء فلسـطين
رئيس مجلس إدارة الهيئة الفلسطينية للاجئين، عضو مؤسس في اتحاد المدربين العرب
عضو الاتحاد الدولي للصحافة الإلكترونية
dr.jamalnahel@gmail.com