ليس من السهل العمل على المناداة بالحرية وتطبيقها بمعزل عن معرفتها وكنهها وماهيتها. كما أنه ليس من اليسير أيضاً أن نحدِّد تاريخاً لمفهوم الحرية الذي هو من أهم المفاهيم الفكرية ،وأحد أهم نقائضها هو الاستبداد والطغيان .هذان المفهومان ـ الحرية والاستبداد ـ يسيران وفق سياق معقَّد في جميع ثقافات الشعوب. كونهما يمرّان بمراحل مختلفة ،فالظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية لها تأثير كبير فيهما. ولأنَّ الحرية هي من أهم الحقوق التي يجب أن يتمتع بها أيّ إنسان على وجه البسيطة، وهي حق ثابت وله جذوره العميقة لجميع البشر، فلا يحق لأحدٍ أن يتجرّأ على حرمان أي إنسان آخر منها، أو إنقاصها، أو تحديدها أو تقنينها ،فهي غير قابلة للتصرّف، كما أنّ الحرية تُشعِر الفرد بأهميّة الإنسانية الفاعلة ودوره، بل بفعلية وجوده الحقيقي، واكتمال إنسانيّته إلى حدٍ كبير، ويُعتبر اختيار الإنسان لمأكله، ومشربه ومسكنه، وطبيعة لباسه وأناقته،وأسلوب حياته، ومكان عمله وإنتاجه، من أبسط مظاهر الحرية التي يُمكننا التحدّث عنها، وهذه المظاهر تتعداها إلى حرية الفكر والتعبير عن الرأي وحرية الكلمة ،وحرية التعبير عن الرأي والرأي الآخر، والحق في الاختلاف، وغيرها من صور وأشكال الحرية الإنسانية.هذا المفهوم ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها البشر، وتتأثر بقوة بالرؤى الدينية والسياسية والاجتماعية المتباينة والمتفارقة.  
الجدير بالذكر أنَّ مفهوم الحرية قد تأثر في تاريخنا العربي الإسلامي بأمرين رئيسيين :
 الأمر الأوَّل تأثره بالمذاهب الدينية: لقد أثبتت معظم الدراسات والأبحاث أنَّ النصوص الدينية القديمة لم تتحدّث عن الحرية ومدلولها بالمعنى السياسي للمفهوم، لكنها أسهبت مطولاً في الحديث عن الاختيار ،وحق الاختيار ،وأنَّ الإنسان مخيّراً وليس مسيَّراً،وذلك مقابل القسر والإجبار. كما أوردت العديد من الدراسات والأبحاث أنَّ الحديث عن الحرية باعتبارها نقيضاً للحرية ومعناها ومدلولها .وعلى الرغم من ذلك لا يعني غياب الشعور بالحرية وآفاقها في مقاومة مظاهر الظلم والقهر والاستبداد،فقد كانت الانتفاضات الاجتماعية التي ترأستها الطبقة العامة في تاريخ المدينة العربية والإسلامية تعبيراً عن ذلك الرفض، لأنها كانت انتفاضات واحتجاجات ذات محتوى اجتماعي واقتصادي، وهذا تعبير أوّلي أو تعبير جنيني من أشكال الصراع بين فئات الشعب أو طبقاته. 
الأمر الثاني تأثر الحرية بظاهرة العبودية : فقد كانت هذه الظاهرة مترسخة في تاريخ البشرية وتاريخ الحضارات القديمة التي كانت وبادت. كما كانت في المجتمع العربي قبل الإسلام، وكانت الدعوة الإسلامية قد دعت بقوة إلى القضاء على هذه الظاهرة اللإنسانية، مع العلم أنَّ ذلك لم يكن ممكن تاريخياً، بخاصة في ظل التطور العمراني، فقد بنيت أهم المعالم التاريخية الضخمة على أكتاف العبيد والفقراء. في العديد من دول العالم ،في بناء القلاع والحصون والأسوار والقصور والأوابد التاريخية الضخمة .وفي حقيقة الأمر فقد عرف المجتمع العربي الإسلامي في أوّلَ ستة قرون من بدء الهجرة النبوية حالة انحسار كبيرة لظاهرة العبودية، بعد أن كان الرقيق يمثلون في ذلك الوقت قوة منتجة هائلة جداً. وفي سياق التطور الحضاري والفكري والثقافي والاجتماعي ،وتطور العامل الاقتصادي ،إضافةً إلى العامل الديني الهام، قد أدّى إلى التخلّص من ظاهرة العبودية والرق.     

لقد شهد التاريخ العربي الإسلامي مرحلة تباينت فيها المواقف حول موضوع القيادة والسلطة مما كان له الأثر الكبير في تاريخ السياسة العربية الإسلامية والعقل السياسي العربي في مراحل تاريخية لاحقة، والتي ما يزال مستمراً حتى وقتنا الحالي. فقد نادى معاوية بن أبي سفيان سادس الخلفاء في الإسلام ومؤسس الدولة الأموية وأوَّل خلفائها ،من خلال دعوته بأنَّ الماضي خير من الحاضر، وأنَّ الحاضر خير من المستقبل وهومقدمة لما سيأتي. بمعنى أنه دعا إلى قطيعة مع الماضي بكل تعييناته. فقد قال مخاطباً سكان المدينة : ( فاقبلونا بما فينا، فإن ما وراءنا شرٌّ لكم، و أن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، و منكر زماننا معروف زمان لم يأت).
وكان زياد بن أبيه وهو قائد عسكري عربي مسلم، من أعلام عهد الخلافة الراشدة، وسياسي أموي شهير، قد قدم إلى البصرة عاملاً لمعاوية عليها حيث ألقى خطبته الشهيرة بعنوان : (البتراء)، قال فيها : ( أيها الناس ،إنا أصبحنا لكم ساسة، وعنكم ذادة، سنسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا، و نذود عنكم بفيء الله الذي خولنا). وقال أيضاً : ( فإن الجهالة الجهلاء، والضلالة العـمياء، والغي الموفي بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم، ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور التي يشب فيها الصغير، ولا يتحاشى عنها الكبير! كأنكم لم تقرأوا كتاب الله ولم تسمعوا ما أعد من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب الأليم لأهل معصيته!( هذا المنهج في القيادة هو نموذج من الأيديولوجيا الجبرية في مرحلة من مراحل العصر الأموي التي وظَّفت النصوص الدينية توظيفاً سياسياً مكشوفاً لتجريد العربي من قدرته على الاختيار، فقد كانت تلك الإيديولوجيا تتسم بالفارق الكبير بين الحسن والقبح العقليين، وفرض الطاعة لأصحاب السلطان ورؤساء الحكم وولاة البلاد، ولم يقتصر الترويج والتفكّر بالأيديولوجيا الجبرية على ذوي القربى من السلطان وأصحابه، بل كان خطباء المساجد والشعراء وغيرهم من انساقوا لهذه الأيديوجيا الجبرية ،من هنا نشأت طبقة سادت وانتشرت عملت من خلال التبشير وتفسيرالأحاديث النبوية بطريقةٍ تهدف في سياقها فرض الطاعة لولاة الأمر. كثير من المسلمين لم يقبل مقولات وأفكار أنصار القسرية والجبرية وحججهم، منادين بالحرية وتحقيقها عملياً على أرض الواقع. مما أفضى إلى بروز العديد من التيارات التنويرية الجديدة ،ومن أبرز تلك التيارات التنويرية العقلانية التيار المعتزلي الذي ساهم بشكلٍ واضح في إعطاء بعد سياسي هام لمفهوم الحرية من خلال طرح مقولة أنَّ الإنسان مخيّر أم مسيّر والتي سارت على بساط الجدل. 

الجدير بالذكر أنّ مسألة الجبر والاختيار غابت عن ساحات الجدل والنقاش والتنظير لشرعية السلطات السياسية بعد ظهور سلطه العسكر (الجند) مع ظهور السلاجقة واستفحال توغّل العثمانيين، وأصبحت الفرق الإنكشارية هي القوة الضاربة والداعمة الأساسية للسلطة .وهذا إدى إلى انتشار ظاهرة الاقطاع العسكري وتداخله في المجال الاقتصادي ، وتداغم مدرسة النقل في تلك الفترة التي أدت إلى التحام الأشعرية مع السلطة السياسية التي صبغت بالصبغة العسكرية . 
في عصرنا الحالي الذي نعيش يبدو أنَّ مفهوم الحرية بمعناه السياسي قد استعمل نقيضاً للحكم المطلق الاستبدادي ،لكنه مع كل هذا لم تكن ملامحه وسماته قد توضحت، ولم يتم استعماله من قبل رواد حركات التنوير العربي لمقاومة الطغيان والنظم الاستبدادية الناشئة إلا في بداية النصف الأول للقرن التاسع عشر الميلادي . وقد حاول رواد النهضة آنذاك اقتفاء آثار الحداثة التي امتاز بها عصر الأنوار في أوروبا والتي نشرت العديد من المقولات التي منها : (لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه). إضافةً إلى عملية السعي لتحقيق دمج العقل العربي في ثالوث يرتكز أساساً على العقلانية والعدل السياسي والحرية .كما انتشرت في ذلك الوقت مقولة تحرير الإنسان والتاريخ الإنساني من أسطورة الحتمية. ومن ضمن تلك المقولات انتشرت مقولة تتعلق بشرعية السلطة والحكم حيث جاءت على شكل تساؤل حول من أين تستمد السلطات السياسية شرعيتها للتحكم في حياة الناس ومصالحهم ؟  
إنَّ بروز هذا التساؤل من خلال صراع الفكر مع الواقع المتشابك والمعقّد التي هيمنت عليه أوروبا قوتان اتسمتا بالرجعية هما قوة الكهنوت الكنسي التي سادت بشكل شبه مطلق. وقوة النظم الاستبدادية القهرية .
من الطبيعي أن نردِّد فكرة حداثة عصر الأنوار التي ساهمت في تدشين عصر الإنسان وحرَّرت إرادته، ليعي أنه هو من يصنع تاريخه، وهي التي أزالت طابع القداسة الكهنوتية وألغت سماتها عن الحكم، فالسلطة شأن إنساني دنيوي يخص الحياة اليومية للناس لا علاقة له بالسماء حسب ما تم نشره من أفكار ومفاهيم في تلك الآونة ، فالإنسان وحده وعبر تاريخ نضاله الطويل له كل الحق في اختيار أفضل أنماط وسلوك الحكم وإدارته لتسيير شؤونه، وله الحق وحده في تغييرها، إذا لم تحقق مصالحه وتؤمن احتياجاته، والحداثة كانت قد أطلّت برأسها من غطاء فلسفة الأنوار وهي تعني العلاقة القوية الوثيقة بين مفهومين إثنين: العقلانية والتحرّر، فلو بحثنا في ماهية العقلانية لوجدنا أنَّ لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرّر.بحيث يصبح التحرّر وما يقترن به من حقوق إنسانية وحريات وديمقراطية دون عقلانية مستحيلاً .
من الواضح أنَّ سياق الاستبداد قد تم إعادة انتاجه تحت عدة أشكال وعدّة مسميات ،وجميعها استلهمت أفكارها ومفاهيمها من ذلك التفكير الذي ساد ردحاً من الزمن ،وهذا أدى بالضرورة إلى وجود إنظمة حكم فاقدة للشرعية. وعملت على قمع الإنسان العربي واغتالت منظومة تفكيره وعقله ،ومنعته من أن يحوذ على الحرية التي تم استباحتها،وبالتالي تمت استباحة أملاكه وثرواته متذرعةً بحجج واهية ورافعة شعارات هي أبعد عن تنفيذها، ولا تتحرّك قيد أنملة لتحقيقها .وهكذا بقي الشعب العربي ضحية التضليل الإعلامي وسياسة العصا والجزرة ويعاني من التخلف والخوف والجوع والحرمان.
calendar_month11/06/2022 03:58 pm