
النازيون والفاشيون الجدد
على إطلاقهم أياً كانت الرايات والشعارات التي يرفعونها والتي يتغنون بها، هم أعداء الإنسانية والعقل والأخلاق السامية والحضارة ، يبسّطون الحياة في فكرة أو جملة أفكار ثم يؤدلجونها في سياق سياسي ضمن أفقهم الضيق وتكلسهم المعرفي والفكري، ويسعون إلى لَي عنق العقل الإنساني . والأسوأ من كل ذلك عندما يحملون السلاح وكل أدوات التعذيب والقهر والرعب لفرض واقع منقطع عن السياق العصري الذي نعيش.
غالبية الحركات الدينية والشعبوية اليمينية المتطرفة في العالم وغيرها من المسميات المحلية والإقليمية والعالمية، فاشية الجوهر ونازية المخبر، لا تملك مشروعاً يخاطب الواقع والعصر أو يحسن التواصل مع الأصل والجذور ، تلغي العقل والعقلانية وتصادر حرية الرأي والتعبير ،كما تصادر حرية التفكير، وتؤمن بعقلية القطيع للضغط على الناس وتسييرها وفق منهجها ورؤاها، عبر بث الذعر والخوف والقلق لضمان استمرارها وسيطرتها.
ما من مكان تمكنت فيه تلك الأحزاب أو الحركات المسلحة إلا وأحالته إلى دمارٍ وخراب ، وجرّدت الحياة الإنسانية من معناها، وهدرت الكرامة الإنسانية، وتجاوزت الأخلاق السامية ،وأفقرت الناس وحاصرتهم وجوعتهم وشردتهم في أصقاع الأرض ،ولم تحسن تدبير شأن السياسة والدولة وإداراتها ومؤسساتها، ومعاش الناس وترقية حياتهم إلى مصاف إنساني حقيقي، بل تمسكت بالسلاح وأدواته القهرية الظالمة حرساً للدين والأيديولوجيا الشعبوية المتطرفة، لكأنه ضد الحياة وضد الوجود الإنساني .
النماذج التي تمثلها الاحزاب والحركات الفاشية ما زالت قريبة من الذاكرة وآثارها ماثلة للعيان في العديد من بلدان العالم وهي شكل من الفاشية الجاهلة.
الإنسانية النقية الصافية والحياة الإنسانية بكل تلاوينها لا تعترف بالدم أو بالجنون ، فالعقل ومنظومة التفكير العقلاني هو المحرك المدبر للحياة ومفاعيلها ، والغاؤه يعني التخبط والتيه والجنون والضلال وفقدان البوصلة الإنسانية. والدم هو الشريان الذي يمد الحياة البشرية بالغذاء ،وقطع أوردته يعني النزف المسفوك والموت البارد ، فكيف إذا اجتمع الدم والجنون في أرض واحدة أو أراضٍ موزعة على البسيطة ؟
من أين يأتي النازيون والفاشيون المتعصبون والمتطرفون من كل لون وعرقٍ ودين؟ هؤلاء هم صنائع أفكار ظلامية وخيال زائف لنموذج تاريخي مضى وانقضى بظروفه الموضوعية الخاصة في إطارها الزماني والمكاني المتعينان، وهم يفتقرون بشكلٍ عملي إلى القدرة على استبصار الواقع الحديث والعصري بتعقيداته وتشابكاته التي تتطلب التطوير والتحديث وإحسان النظر للأخذ من الأصل والجذر لمواكبة العصر، ففضلوا لعجزهم العيش في كهوف الفكر الظلامي والارتكان إلى طوباوية تجاوزها الزمان وعاشوا في نوستالجيا المكان وطفولة الحلم.
الأمر لا يتعلق بدين بعينه، بل يجد استنساخات ومولّدات حركة وقوى في اليهودية والمسيحية والبوذية والهندوسية والأيديولوجيات القومية والعرقية والشعبوية. ففيما تمضي الحياة قدماً يرتد الكثير من البشر إلى خيبة الأمل واليأس والنكوص والارتكاس ، ويتحول عجزهم ووهنهم عن المواكبة العصرية إلى اشمئزاز لعالم لا يفهمونه، وغير قادرين على مجارات الحداثة والعصرنة والتطور التكنولوجي الهائل. يملؤهم بالرعب والخوف والذعر، فيتحصنون بالخيال والأحلام والارتداد إلى طفولية التفكير الجنيني، أو العزلة والتقوقع في انتظار الخلاص المتوهم الخيالي . الخلاص من الحياة وتفاعلاتها الإنسانية بكامل أنساقها واستطالاتها، أو تخليص الحياة من العقل والمعرفة والدم.
الفشل الذريع المزدوج للمشروعين الوطني والقومي في وطننا العربي أو تفشيلهما في الجغرافيا العربية ومكوناتها التاريخية والثقافية والمعرفية والحضارية ، قد يشبهان حالة الفشل الذريع والأزمة المتفاقمة !والإحساس بالمأساة الإنسانية والكارثة الحضارية التي حدثت في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى المدمرة والتي راح ضحيتها ملايين البشر ، التي ألهمت الشاعر البريطاني توماس ستيرنز اليوت في كتابة قصيدة (الأرض اليباب) و قصيدة (الرجال الجوف)،
وتعتبر قصيدة الأرض اليباب الخراب أرض الضياع . التي كتبها ت. س. إليوت عام ١٩٢٢م
( The Waste Land)
بإجماع النُقّاد أروعَ أعماله الشعرية على الإطلاق والقصيدة التي أكسّبّتهُ شهرته الدولية. وقصيدة (الأرض اليَباب) تُعبر عن خيبة أمل جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى وقرفِهِ و تَقزٌزه مما حصل ، وتصور عالماً مثقّلاً بالمخاوف والرعب والذّعر والشهوات العقيمة. عالماً ينتظر إشارة ما تؤذن بالخلاص الأبدي أو تعدُ به. وقد أهداها صاحبها إلى زميله الشاعر عزرا پاوند Pound.
هذه القصيدة ألهمت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إنشاء السوق الأوروبية المشتركة والاتحاد الأوروبي.
في حقيقة الأمر لا يكون التحدي الحقيقي بالهروب منه، بل بالارتقاء إلى مستواه بظروفه الزمنية وشروطه الموضوعية والتفاعل العملي معه لتجاوزه وتخطيه إلى تحديات أكبر، وبذلك تكون الحياة الإنسانية والإضافة إليها، لا الارتداد والنكوص والارتكاس إلى العزلة والتقوقع والطوباوية والخيالات الفضفاضة والأوهام الأيديولوجية المنكسرة والعاجزة عن الحياة ومكوناتها أو تفسيرها.
أليست الأرض العربية أرض مقدسة لأنها مهبط الرسالات السماوية ومهد الحضارات الإنسانية ومصدر الأبجدية الأولى في التاريخ الإنساني . وهي أرض خصبة وأكبر من أن تترك بيد الخاوين والفارغين من الفكر والثقافة والمعرفة الإنسانية والحياة ليحيلوها إلى أرض خراب . أرض يباب بلا ملامح أو وجود أو شواهد حضارية بدأت منذ الصيرورة الأولى للخليقة وعبر سيرورتها التاريخية ؟ .