
يبدو أن الهوية بوصفها هيئة وبنية تشكلت عبر سيروروة تاريخية، يُعاد في تاريخنا الحديث والمعاصِر تشكيلها ورسمَ حدودَها وتحديدَ وظيفتها من أجل استمراريتها، مع العلم أنّ البحثَ في الهُوية هو كمن يمخر عُباب المحيط بسفينةٍ يجب أن تكون مجهّزة وقادرة على تحمّل الصعاب والمخاطر ، إنه محيط واسع من الأفكار والآراء تتناسل منهُ دونَ توقّف توظيفات مصطلح (الهُوية) إلى هُوياتٍ فرديةٍ وجماعيةٍ معقّدةٍ ومركّبة. تحتاجُ إلى جهودٍ كبيرةٍ لمتابعتها. محاولينَ البحثَ عن مقاربة تحليلية وتشريحية لمسألةِ الهُوية التي يشوب بحثَها بعضُ الارتباك هُنا وهناك بسبب رواج المُصطلح في الحياة اليومية ،والإعلام، والعلوم الاجتماعية، والأدب والفنون، إلى درجةٍ يصعب معها تحديد هويّة لمصطلح الهُوية ذاته.
في بحثنا عن الهُوية نجد أنّ الهُوية العربية من أنجع المضادّات للطائفيات والمذهبيات وصراع الإثنيات على أنواعها وتعدّدها.
هناك عدّة مطبات يواجهها الباحث عندما يبدأ الخوض بشكلٍ عِلمي في مجال الهُوية. منها توسيع مجال مسألة الهُوية والإفراط الكثيف في إدراج قضايا عديدة تحت عنوانها الكبير، والتعتيم بذلك على مصادر اجتماعية وثقافية ومعرفية واقتصادية وسياسية معقّدة للقضايا التي تحتاجُ إلى معالجةٍ، ولا تقودُ معالجتُها بالأدوات التي تُقارب بها مسألةَ الهُوية إلّا إلى مزيدٍ منَ التعقيدِ والغموض.
وما أدلُّ على ذلكَ سوى هشاشةُ الدولةِ وضعفُ بنيتها، ووهن تركيبتها، وعدم تماسك المجتمعات الوطنية أمام التغييرات الكبيرة والمفصلية التي تحصل للأنظمة السياسية في منطقتنا العربية، حيث يميل البعض إلى اعتبارها أزمة هوية وطنية للمجتمعات التي تشكّل الدولة، أو أزمة هُوية الدولة بمعنى من المعاني. وهو استخدامٌ ممكن، ولكنّه أيضاً، يمكن ملاحظته أنه تمويهٌ يعوّق فهْم القضية المركّبة المتشابكة المتعلّقة بتاريخ نشوء الدولة وبنيتها وترسيم حدودها الإقليمية، والتحديث والتطوير من أعلى، وإخفاق النُّخَبِ الحاكمة المسيطرة في عمليةِ دَمج المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً بمعناه الأنثروبولوجي، وحقوقياً وبناء الأمّة بوصفها أُمّة الدولة، وغيرها من القضايا الهامة.
ومن المطبات التي يواجهها الباحث في مجال الهُوية هو اعتقاد البعض أنه، بما أنّ الهُويات بشكلٍ عام كائنات تاريخية وليست طبيعية، أي بما أنها مركّبة ومصنوعة، فهي مجرّد أوهام لا تستحقّ كلّ هذا الجهدِ وهذا الاهتمام. بينما غالبيةُ المؤسّساتِ والكياناتِ والهيئاتِ الاجتماعيةِ المهمّة في حياتنا مركّبةٌ ومصنوعةٌ. وكَوْنُ الهُويات ناشئة لا يعني، أنها لا فائدة منها وغير مهمّة، سواء تشكّلتْ خلال الصراع ضدّ الإستعمار الكولونيالي أو الاستعمار الحديث، أو بفعل النخب السياسية والثقافية على اختلاف مشاربها ومنابعها، وبواسطة إبراز انتماءاتٍ جرى تعيينها مسبقاً للناسِ في الخطاب السياسي وبرامج التدريس والتعليم، وبرامج الترفيهِ، والتشديد المكثف والمبرمج على التميّز عن الجماعة الأكبر والأشمل التي تتفرّع منها الهُوية المتميّزة، وعن جماعاتٍ تعتبر نفسها مختلفة ونوعية، وأخرى تعتبر نفسها خصماً.
وفي حقيقة الأمر ،ثمة فرق بين سؤال الهُوية فلسفياً وفهْمنا له في الواقع ومفاعيله.
كما يمكننا إيجاد مطب آخر في مجال بحثنا العلمي عن الهُوية وهو الخلط والتشابك بين مسألة الهُوية وما يُسمّى الشخصية الحضارية لشعبٍ أو أمّة أو إمبراطورية، أو حتّى قارّةٍ ما، كما يُدّعى عند الحديث عن شخصيةٍ حضاريةٍ موصوفة كالحضارة الأوروبية، أو حضارات الشرق، أو حتى عن اليهودية أو المسيحية، أو الإسلامية، أو عربية - إسلامية، أو بوذية أو زرداشتية أو غيرها. وهنا تبرز العديد من التساؤلات الاستنكارية وليست تساؤلات استفهامية منها: ماذا يمكن أن تعني الهُوية الشرقية في آسيا، أو الهُوية الأوروبية في قارّة شهدت حربَيْن عالميّتَيْن بين الأوروبيّين أنفسهم دون تدخل أي من شعوب ودول الحضارات الأخرى، وتشهد الآن حرباً دامية مثلما نشهده اليوم من (الحرب الروسية على أوكرانيا)؟ وماذا يمكن أن تعني الهُوية اليهودية - المسيحية بعد حدوث المحرَقة؟ ماذا تعني الهُوية الأوروبية المشتركة الموحدة، عدا إبرازها على نحو سلبي أمامَ مَن ليسوا أوروبيين أو ليسوا من سكان القارة العجوز ؟ هل ثمة هوية يهودية - مسيحية سوى في محاولات أوروبا المستمرة تخطّي المحرقة وما أطلق عليه (العداء للسامية) ومحاولات الكيان الصهيوني الحالي الانتماء إلى ما يُسمّى ( الغرب الأوروبي _ الأمريكي)، في مقابل الشرق؟مع العلم أننا نبحث عن هوية واثقة، لا متعصبة بأي معنىً من المعاني.
هنا يأتِ الفحص الموضوعي لتبيان الفرق بين مصدر سؤال الهُوية في المجال الفلسفي، وبين فهمنا لها في الواقع الاجتماعي الموضوعي، وهو الأقرب إلى الإشكاليات التي تثيرها تخصّصات مثل علم الأنثروبولوجيا الثقافيّة، وعلم النفس الاجتماعي والسوسيولوجيا. وهي تخصّصات تتقابل وتتفاضل حين يتعلّق الأمر بسؤال الهُوية.
من المعلوم أيضاً أنّ الانشغال بالهُوية يَدفع نحو التراث بما يملك من غنى وثراء. أما الانشغال بالتقدّم، فيَدفع نحو الحداثة، مع اعتقادنا أنّ المجتمعات العربية بحاجة إلى الشعورٍ بالهوية أو العاطفة السياسية بقدر ما تحتاج إلى الشعورٍ بضرورة الاتحاد والوحدة، أو الاتفاق على الوحدة وغيرها من الشعارات التي سادت ردحاً من الزمن. وهي شعارات إيجابية في مواجهة القطرية التي تخدم هدفاً واحداً، وهو الاجتماع على استراتيجية واحدة وهدفٍ واحدٍ كحدٍ أدنى.
لقد أصبح المنهج الواسع والإطار العام الحالي للعالم، عالماً سَقطت فيه الحدود الفاصلة التي كانت تؤمّن نوعاً من التجانس والتوافق في جماعاتٍ بشرية واسعة، وهذا ما يؤدي إلى سقوط ما يسمى بالهُوية القومية مقابل الهوية الحضارية، فكثيراً ما نشهد وجود حركة واسعة تتسع أكثر فأكثر، وتجعل الشعوب واللغات والأديان تتداخل، وينتج من هذا التداخل الاجتماعي والثقافي الأنثروبولوجي الواسع وضع جديد يُطرح فيه سؤال عن هُوية الفئات الاجتماعية على تنوعها في إطار تعددية أدبية وثقافية ومعرفية ودينية شديدة التنوع، وتطرح أيضاً مشكلة تعايش تلك الفئات المختلفة ضمن الوحدة الوطنية التي ما تزال حتى الآن متمسكة بمفاعيلها وصامدة في تيار التغيرات الواسعة.
إنّ أصحاب الشخصية الحضارية، ذات المكوّنات المكتنزة والغنية المنفتحة على التطوّير والتحديث والتغيير، والواثقة من نفسها بتأصلها في هُوية الأفراد الجماعية، لا يخافون ولا يرتابون من التفاعل مع الثقافات والحضارات الأخرى. وهذا يقف على النقيض من الشخصية الحضارية الضعيفة والفقيرة التي تعاني من التمزق والتشرذم والوهن، والتي يصعب أن تضرب جذوراً عميقة في هُوية الأفراد الجماعية من دون استخدام متواصِل لنفي (الآخر) كوسيلة لترسيم حدود الهُوية ومجالها الواسع.