
في معرض حديثنا عن الأخلاق نجد لها تعريفاً عاماً شاملاً يؤكد أنها منظومة قيم يعتبرها الناس بشكلٍ عام جالبة للخير والعطاء وطاردةً للشر وفقاً لمعايير الفلسفة الليبرالية ورؤاها ،وهي ما يتميز به الإنسان عن غيره من ناحية السلوك ومنهج الحياة .وقد قيل عنها إنها شكل من أشكال الوعي الإنساني، كما تعتبر مجموعةً من القيم والنواميس والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والمساواة والحرية، بحيث ترتقي إلى درجة أن تصبح مرجعيةً ثقافيةً لتلك الشعوب. لتكون سنداً قانونياً وتشريعياً ناظماً لإيقاع حياة الناس، تستقي منه الدول والممالك والامبراطوريات الأنظمة والقوانين والتشريعات. وهي السجايا والطباع والأحوال الجوانية التي تُدرَك بالبصيرةِ والغريزة، والعكس صحيح حيث يمكن اعتبار الخلق الحَسَن من أعمال القلوب الطيبة والخيرة وصفاتها. فأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخُلُق يكون قلبياً ويكون ظاهراً أيضا.
ومن أنواع الأخلاق أو مكارم الأخلاق الصدق والأمانة، الحلم ،الأناة، الشجاعة،المروءة،المودة
الصبر ،الكرم، والشهامة، والفروسية.
في العام ١٦٧٧ م نشر الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا كتاباً هاماً بعنوان: (علم الأخلاق) وهو كتاب أساسي لفهم فلسفة اسبينوزا وبزوغ الفلسفة الغربية الحديثة، حيث يقدم اسبينوزا فيه رؤيته للطبيعة والآلهيات والأخلاق، ويعتمد فيه منهج المنطقية الهندسية.
كان هذا في العصر الحديث.
لكن قديماً ألّف أرسطو كتاباُ هاماً بعنوان : (الأخلاق النيقوماخية) وهي إحدى تصانيف أرسطو الذي أهدى الكتاب إلى ابنه نيقوماخس. والكتاب يتضمن مجموعة كبيرة من الأخلاق والفضائل .
وقد ترجم الكتاب إلى اللغة العربية في القرن الثالث الهجري وشرحه الفلاسفة المسلمون ومنهم ابن رشد المتوفى 595 هـ.
وهكذا فإنّ أرسطو يقرر _ منذ آلاف السنين - أن المثال الأعلى للقياس والنظام، والانسجام، لا يتحقق في فضائل الحياة العملية، إلا بتحقيق عناصر أساسية ثلاثة: السماحة، وهي المرحلة المتوسطة بين الإسراف والبخل. والعدالة، وهي التي تقوم على الحفاظ على بنية التوازن الاجتماعي. والثالثة هي الصداقة (الفداء)، وهي أن يهب الإنسان نفسه بشكلٍ مطلق ونزيه، ولكن أيضاً أن يكتسب خير ما عند الطرف الآخر أخلاقياً.
أشهر من تناولوا فقه الأخلاق من العلماء المسلمين قديماً في تاريخنا العربي الإسلامي: أبو حامد الغزالي ،والفارابي، وابن سينا، ومسكويه، وغيرهم من العلماء والفقهاء، وكانوا يقفون دائماً مقابل أرسطو وأفلاطون .
في عصرنا الحالي لاحظ المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري ذات يوم، ضعف التأليف والتصنيف والتصحيف في علم الأخلاق في ثقافتنا العربية الحديثة. وربما باستثناء ما كتبه المفكر النهضوي والأديب والمؤرخ والكاتب المصري، أحمد أمين ضمن كتاب بعنوان : (الأخلاق)،
وتكاد مكتبتنا العربية تخلو من التأليف والتصحيف في هذا العلم، وبدوره يلاحظ قارئ كتاب المفكر محمد عابد الجابري الموسوعي بعنوان: (العقل الأخلاقي العربي)، ذلك الذي أورد في مقدمته ملاحظته الهامة التي أشرنا إليها، أن مؤلّفه تورّط أكثر في المجال السياسي،تلك التي لم تتخلص مباحثها ومناهجها في كتاب الأخلاق، لأن الكتاب جاء محملاً بأطروحات ورؤى تتعلق بطبيعة العلاقة الوثيقة بين النخب الفكرية والثقافية والسلطة من ناحية، والمواطنين العاديين من ناحية أخرى،هذه العلاقة الوثيقة تمنح الأولوية المطلقة للسياسة من زاوية تأثيرها المباشر في أخلاق المواطنين .والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه المسألة: لماذا أهملت الثقافة العربية البحث في علم الأخلاق، ولماذا لا تولي الثقافة العربية ومناهج التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات أهمية لموضوع علم الأخلاق؟ من جهة طرحه فلسفياً والتنظير له بشكلٍ علمي وعقلاني وإنساني .
حسب التقسيم المعرفي ينتمي علم الأخلاق إلى حقل الفلسفة والمجال الفلسفي الواسع، وبضاعة العرب فيها خلال العصر الحديث لا تدعو إلى الفخر، بل لقد عقدت الكثير من الندوات والمؤتمرات والنقاشات التي تسأل: لماذا لا توجد فلسفة عربية حديثة؟ أو كيف يمكن تحقيق الاستقلال الفلسفي بشكلٍ مناسب، وتمادى البعض خلال إحدى الفترات فتحدث عن فلسفة عربية خالصة، أو أطلق حلمه وطموحه (نحو فلسفة عربية)، ولم تكن تلك المؤتمرات بما تطرحه من أفكار ومواضيع تتعرض من قريبٍ أو بعيد إلى علم الأخلاق.
وبحسب التصنيفات والتقسيم الكلاسيكي لتيارات الفكر العربي الحديثة والمعاصرة: كلاسيكية وليبرالية وعلمانية، سنجد أن البحث في مجال الأخلاق مسألة غير مُفَكَّر فيها ومحسومة
استناداً على توجه وروح وعقلية كل تيار، فالتيار الأوّل، يعتبر الأخلاق منظومة القيم والنواميس التي تستمد أصولها وفصولها من الفكر الديني والعادات والتقاليد والحكايات والأساطير ، وبالتالي هي لا تحتاج إلى تفكير أو تنظير ، وهي محفوظة في حكم الأجداد وأقوالهم ووصاياهم، مع أن تأمل مصنفات ومصفوفة المفردات السابقة يخبرنا بشكلٍ صريح عن اختلاف شديد بين الأخلاق من ناحية والدين أو العادات والتقاليد والثقافة من ناحية أخرى.
أما التيار الليبرالي الغربي فاعتبر الأخلاق ممارسة اجتماعية وسلوك يومي تخضع لتحولات المجتمع وتقلباته ومدى انفتاحه على الآخرين بشكلٍ واسع ، واستندت بعض الأطياف والتيارات العلمانية إلى مفهوم الحداثة ومدلوله في التعاطي مع الأخلاق والنواميس، فكلما ترسخت مبادئ الحداثة ومدلولاتها بما تحمله من قوانين وتشريعات وحريات شخصية أو فردية في المجتمع، كلما انعكس ذلك في منظومته القيمية ومنهجيته، وحتى إذا ذهبنا إلى اليسار بكل تلاوينه سنجده قد منح البطولة في مسار الأحداث وتطورها وحراك المجتمع إلى العامل الاقتصادي والتجاري والمالي، وتعاطى مع أخلاق كل طبقة من طبقات المجتمع بشكلٍ منفرد بحسب تأثر تصوراتها ورؤيتها للعالم أجمع وسلوكها فيه بوضعها المادي.
علم الأخلاق بات يتيماً في الفكر العربي الحديث والمعاصر، فهو في الأصل علم أو نظرية متكاملة الأركان والأسس ، لها أعلامها من فلاسفة ومفكرين وأطروحاتها ومدارسها ومناهجها، سنجد ذلك في الفكر الغربي القديم والحديث أو بعض كتابات التراث العربي الغني ، تؤثر فيها جميع العوامل والأسباب، ولكنها تمتاز برؤية أوسع وأشمل وأكثر تماسكاً واتساعاً من تلك الأسباب وتلك العوامل. علم الأخلاق وتفرعاته يحتاج إلى منهج مدروس يأخذ في الاعتبار مقدمات العلم النظرية والتحولات المتتالية التي تعيشها مجتمعاتنا العربية.