في لقاء حاشد ضم عددا من الكادرات والقيادات التنظيمية لعدة فصائل دار الحديث الطويل حول السياسات الفلسطينية للسلطة الوطنية، وفي حديث الفصائل كثيرا ما تجد نفسك تعلك التكرار والملل واللاجديد، وما بين النقد الهادف، والنقد الجارح إلى حد التسخيف والتسفيه والتحقير الغريب عن مفهوم الديمقراطية، صعد على المنبر طالب جامعي، ووجه حديثه للفصائل جمعاء مشيرا لمجموعة من الأمراض التي تعيشها هذه الفصائل يمينا وشمالا، وهي مما رآها تغزو الكبد والقلب والدماغ، والتي منها (الوهم) كما قال. 

       كان الطالب الجهبذ يقصد بالوهم وهم الانتصارات والانجازات مضيفا إليها التحجر برفض النقد ، وما أن أتم كلامه حتى علت أصوات الاستهجان من قادة بعض الفصائل الجالسين بحيث أن المبتسمين خفية من الحضور لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة.
          كان الطالب حكيما على عكس ما يثار عن الشباب! وعلى عكس ما يتهمونهم به دوما من طيش أوجموح أو تعجل فلقد كان واعيا، فانتحيت به جانيا خارج قاعة الندوة لأسمع أكثر، فماذا قال؟
          تعيش التنظيمات السياسة الفلسطينية بقمقم عجيب لا يجعلها ترى أبعد من حدود القمقم! وتفترض بذات الوقت أن لا حياة خارجه! لذا تغزوها الأمراض بالقلب والكبد والكلى والرئتين بل والدماغ!
         فالصيغ القديمة للعمل والإدارة لم تتغير عند هذه الفصائل، والنظرة والمنهج لم تتبدل الى الدرجة التي تجمدت فيها الأفكار والمبادرات فدعني أضع أمامك 5 أمراض بالكبد والقلب والدماغ تعاني منها التنظيمات السياسية ومنها الفلسطينية اليوم.
ابتسمت، وقلت له: تفضل وكلي آذان صاغية،فلم يكن ليعيبني أن استمع لطالب في الجامعة يتحلى بالطموح والفكر الرزين مع شيء من الجموع، وأنا كنته في زمن مضى وربما أكثر، فقال
          إن المرض الأول لدى هذه التنظيمات هو "مرض الحرص"! نعم الحرص الشديد، ولكن أتراه على القضية أم الشعب أم الفكرة؟
لا يا سيدي، انه الحرص على البقاء، ومن هنا ظهرت السلبيات وبانت العورات ، وتقلصت المساحات ، وبعُدت الشقة وغابت الثقة بين القيادة والجماهير.
   أن الحرص على البقاء والتمسك بالكرسي والموقع حتى لوكان فارغا برأيي أصبح الهمّ الأول لمخضرمي السياسة اليوم إذ بدلا من الاهتمام ببناء الأسس ودعم المبادرات وتثقيف وتدريب من يليهم على إدارة وقيادة التنظيم يلجئون لكافة الحيل لإقصائهم وبناء مجموعات من القطعان التي يتم جذبها بالمال أوالموقع أو بالأمل بالمال أو الموقع فتسقط الأهداف والمبادئ، وتتربى أجيال من الانتهازية لا تعبأ بالناس وكل ما يهمها تحقيق مطمحها الشخصي.
          إن الحرص على البقاء عدو التغيير ، ورفض لمنطق الثورة التي جاءت لتغيير وقلب الواقع الفاسد فكلما نظرنا للواقع أنه لا تشوبه شائبة كلما سقطنا في مستنقع الحرص على البقاء دون مقومات حقيقية للاستمرار.
          أما المرض الثاني فهو الجري السريع واللهاث حتى انقطاع النفس بتسارع دقات القلب الحزين، أودعني أقول ببساطة"ملاحقة الحدث" فلم تعد غالب التنظيمات السياسية قادرة على صنع الحدث أو الابداع أوقيادة المبادرات إلا ما ندر، وهي بكثير منها تركن للتعليق والنقد واللطم واللهاث وراء الحدث ووراء الأضواء للتعبير عن قبول أو رفض لمجرد القول هأنذا خوفا من غياب الصورة، وكأن الحضور ارتبط فقط بالظهور على الشاشة! أو على وسائل التواصل الاجتماعي.
          وثالث الأمراض هو "اللجوء للحشد، وليس للتعبئة والتربية والتعلم من الناس" حيث أن فقدان الارتباط بالناس عبر الاحتكاك المباشر بهم وبمشاكلهم وبالاستماع لهم يجعل المسؤول نتيجة الفقدان هذا يقع في شرك حب الظهور الاعلامي على حساب الحوار الجماهيري، فإن كنت قادرا على الإطلال الفضائي على الناس، فلا داعي (للمناهدة) في الاتصال المباشر بهم.
وإن كنت قادرا على تحشيدهم لمظاهرة أو زفة عرس أو حفلة ما ببطاقات جوال أوبوعد أوتحريض ما فلم أتعب نفسي بتثقيفهم أو تدريبهم ورفع مستوى الانتماء لديهم.
 التحشيد ما هو إلا استخدام سلبي للناس، بينما التعلم والتعبئة ثقة بالناس تنمو عبر إعداد الكوادر وحسن التواصل بها والأولى مؤقتة والثانية دائمة .
          أما رابعا فإن "سرطان التهليل للقائد أو الزعيم" سواء كان رأس أو قائد عشيرة أو جمعية أو نادي وسواء كان قائد سياسيا أرى هذا التطبيل والتهليل قد طغى كثيرا على الدفاع عن الفكرة، وهي أصل الانتماء لأي تنظيم مجتمعي أو سياسي!
       فكثيرا ما نرى الدفاع المستميت عن هذا المسؤول (الذي يسمونه قائدا) أو ذاك المسؤول حتى لو كانت مواقفه مناقضة للأهداف أو الأفكار أو البرنامج السياسي ... لقد قُتلت الفكرة وصعدت صورة الزعيم لتحل محلها فهو هي، وهي هو.
          إن التهليل للزعيم يعني قتل الأنداد سياسيا، إذ لا يحق للمخالِف أمام الزعيم أن يرفع رأسه أو أن يقول (كلمة حق عند سلطان جائر) فهو الملفوظ والمُدان أبدا، وهو المنبوذ دوما، فتستخدم ضده كل السُبل لتحجيمه أوابعاده من وسائل استغلال للدين أو العلاقات أو المال، أو الأكاذيب والافتراءات أو الإشاعات وما أكثرها وأسهلها اليوم بالتزوير على الشابكة، وهي من الوسائل التي تكثر على هامش الخلافات السياسية أوالمؤتمرات الحزبية، أو حول النفوذ والسلطة والسيطرة.
          والسرطان أو المرض الخامس هو في العقل والدماغ فإن كانت الأمراض أو السرطانات الأربعة السابقة في القلب والكبد والكلى والرئتين فإن هذا في الدماغ ، فالوهم أو "صناعة الوهم" أو الحلم (وليس الأمل والطموح المستند لمنهج و برنامج وهدف وخطة يتم تنفيذها) هي صناعة قيادية بامتياز!
     دعني أقول لك أنها صناعة راجت على مدار التاريخ، وأظنك توافقني، إذ سطّر الملوك والسلاطين والأمراء نجاحاتهم أو أمجادهم -هذا إن صحت نسبتها لهم- سطروها بشكل خرافي أخرج كثير من الأحداث من سياقها الطبيعي الى منطقة الوهم أو التخريف والأسطرة، وهو ذاته ما تحاول عديد القيادات السياسية اليوم فعله، فنحن حققنا انتصارا هنا وانتصارا هناك ربما، وفي الحقيقة أن الانكسار هو العنوان الحقيقي لأن (انتصار) يتلوه نكسة للناس ما هو إلا هزيمة فلا قيمة لأي (انتصار) إن لم يُراكم عليه أو يظهر بصورة ايجابية على الناس أو على القضية.
          ومع سرطان الوهم يُحرّم النقد، ويصعد التبريروالتجميل والتطبيل، ويكون اللجوء لأدوات التجميل مفروضا عبر الأدوات الإعلامية/الدعائية، أوالأمنية، وللحشد لتكريس "الانتصارات الوهم".
          استمعت للشاب اليافع بانتباه وكان يتحدث بحُرقة بادية قلما تلاحظها اليوم في جيل (الفيسبوك) وجيل (ما الأمر = الواتس أب) على الشابكة (انترنت) التي تأكل عقول الناس، وإذ كنت لا أشك أن الأمراض قابلة للعلاج حتى السرطان حديثا، فإن الأبواب الخمسة التي فتحها الطالب الشاب وهي : باب التنظيم والحشد ، وباب السياسة والحدث، وباب الأنا والتهليل ، وباب الوهم، وباب الحرص على البقاء هي أبواب تقع تماما في مواجهة الأبواب الخمسة الأخرى ألا وهي: باب التنظيم الصلب ، وباب السياسية المرتبطة بخطة وبرنامج ، وباب القيادة ضمن العمل بروح الفريق ، وباب المنهج الفكري ، وباب الإبداع المرتبط مع النقد.
          يذكر القيادي الفلسطيني شفيق الحوت في لقاء له مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أنه قال له معجبا به: يقولون عنك أنك مزيج من ستالين والمسيح! (أي مزيج من الشدة والتسامح) فلم يكن للرئيس الواثق بنفسه الذي يرفض الكبر والعُجب إلا أن يقول: أنا جمال عبد الناصر، رافضا التهليل والتطبيل ومعليا الفكرة والجماهير في رده اللاحق.
        كما هو الحال تماما عندما كانت الجماهير تهتف للخالد ياسر عرفات قائلة بالروح والدم نفديك يا ختيار، أو بالروح بالدم نفديك يا أبوعمار، ليقول هذا القائد الجماهيري والسياسي الحريص والمبدع المعلم والمتعلم، لا بل قولوا : بالروح والدم نفديك يا فلسطين.
بكر أبوبكر
كاتب وأديب عربي فلسطيني
في الفكر والدراسات العربية والاسلامية
Baker AbuBaker
Palestinian Author & writer
Arab Thinker
www.bakerabubaker.info

calendar_month16/07/2017 12:45 pm