المجال الذي تتحرك فيه القوى العالمية هو بجميع الاحوال يقتضي التوسيع أكثر فأكثر، ما دام خارج نطاق مصالحها الأساسية المحظور التعدي عليها خاصة الداخلية، بمعنى ان الدول الكبرى تحاول أن تفرض صراعا مع تلك القوى المناوئة في مناطق لا تمس حدودها او مصالحها الرئيسية، فتُنتكب شعوب أودول أخرى بهذا الصراع.
وآلية فتح مجال الصراع في البعيد ضمن العلاقات الدولية أحاطت بقضيتنا العربية الفلسطينية منذ البداية، فلم تكن فلسطين أو شعبها العربي ليمثل تحديا أو تهديدا للدول الاستعمارية، فلِم الطغيان الغربي والتسلل تحت جلد فلسطين؟.
  فتح مجالات الصراع للاستعمار في مناطق مختلفة بالعالم كان الأساس لتحقيق الهيمنة والسيطرة على العالم، من خلال السيطرة على المناطق الاستراتيجية جغرافيا واقتصاديا وأمنيا، وهو الذي سبب النكبات لدول وشعوب العالم في ظل سياسة الاستعمار البشعة في آسيا وافريقيا وأمريكا.
 استطاع الاستعمار أن يسوّق نفسه كمنبر للحضارة والثقافة البيضاء منذ القرن18 ومستغلا الدين والتفوق العسكري، لذا فإنه تقدم خطوات واسعة للتخلص من الاعداء الرئيسيين عبر تحطيم نفوذ الدولة التي شكلت تحديا له وهي الموحدة (السلطنة العثمانية)، ونفوذ التوسع الألماني النازي، وكل ذلك لاحقا على فترة الصراع الطويلة على مناطق النفوذ.
لم تكن فلسطين وشعبها مشكلة أوروبية أبدا، ولم يكن للاستعمار الاوروبي المريض عنصريا أي قضية في مواجهة العرب والفلسطينيين، رغم تعديه في مراحل متعددة على أراضينا، ولكن قضيتهم الاساسية-كاستعمار- كانت أولا: في الثقل المعرفي الذي افترض بذاتهم الاكتفاء الحضاري والتفوق العنصري المتلازم مع عقلية الهيمنة والقوة العسكرية التي تؤهلهم-باعتقادهم- وتتيح لهم تدميرالآخر أوالحلول محله من جهة.
 استفاد المستعمرون الغربيون ثالثا بتوسيع مجال النفوذ خارج بلدانهم بالتخلص من التهديدات الداخلية لتطور الطبقات الجديدة في مواجهة الحكام الاستبداديين، ولا شك أن العقيدة المسيحية الاستعمارية المتشددة ضد اليهود لزمن طويل (من القوميات الاوروبية المختلفة) كانت امتدادا للظلم الواقع على اتباع الديانة اليهودية في العصور الاوروبية الوسطى المظلمة، نتيجة عداء الكنيسة حينها، والذي تحول لعداء عرقي واستعماري نظرا لدورهم في المجتمعات الاوروبية.
ان التخلص من التهديدات الداخلية في العمق الاوروبي كان يقتضي التخلص من اليهود من مواطنيهم، وهم الاعداء التاريخيين، والدينيين والاقتصاديين للعقل الاستعماري الاوروبي، فبزغ خيار ترحيلهم منذ رأى نابليون ذلك عام 1799 إثر فشله في فلسطين مقررا أن يغرى اليهود لاحتلال بلادنا.
   حاول الانجليز قبله وذلك فترة حكم كرومويل (1653) وفشلوا.
 (المسألة اليهودية) التي تحدث عنها كارل ماركس واعتبر حلها يقتضي الانتصار على الرأسمالية، افترض الاستعمار الغربي وبعقليته المتوحشة أنها مشكلة مستعصية الحل في ظل مركّبات العداء (الديني / التاريخي / الاقتصادي / الاقصائي) فكان لابد أن يُصار لطرد هذه المشكلة ومسببيها بعيدا عن الأرض أوالمجال الاوروبي، وبالتالي تصديرها لأزمة ومشكلة في قلب العدو (وهو الأمة العربية والاسلامية)، وكما الحال -وإن بنسب مختلفة- مع مئات الأزمات التي خلفها الاستعمارالغربي في معظم البلدان حتى اليوم.
 في ذلك يقول المفكر سلامة كيلة: "لقد حُلّت " المسألة اليهودية " في أوروبا-في القرن التاسع عشر- ليس عبر التحرّر السياسي-بالدولة العلمانية الديمقراطية-، بل من منظور إمبريالي عبر تصديرها إلى الوطن العربي. وبالتالي فهي لم تُحلّ، على العكس فقد تحوّلت إلى مشكلة عالمية. فبدل إعطاء اليهود حقّ التديّن، جرى تشكيل دولة يهودية"
كلما قمنا بتوسيع المجال الخارجي كلما كانت الحلقة تضيق على المعارضة الداخلية، وهكذا الأمر لدى القوى الاستعمارية والاستبدادية فإتاحة الفرصة للجميع للحركة بإغراءات الذهب بعيدا عن المجال الداخلي يشكل عامل قوة للحكم وأدواته أكانت منصفة ام استبدادية.
 وفي ظل هذه السياسة التي بجانبها السياسي تتوحد الأمة نحو الخطر الخارجي أو للاستثمار بالاطار الاوسع فإن لها من الجانب السلبي ما استغلته قوى الاستعمار والاحتلال والاستبداد لإبعاد النار عن العرش والهيمنة من جهة، ولإشغال الأمة بعيدا عن منطق التغيير الداخلي نحو حياة أفضل.
لم تكن فلسطين كمجال خارجي للاستعمار الغربي المتعصب لذاته والمعادي لليهود الا حلا متعدد المستويات لزم العقل الاستعماري في مواجهة الطبقات الصاعدة والديمقراطية البازغة، وفي مواجهة انحسار النفوذ الامبراطوري، فكان لزاما أن يُدق المسمار الكبير في نعش الخطر المتوقع وهو الخطر القريب عبر ضرب عصفورين بحجر فيتخلصون من "المشكلة اليهودية" المزمنة المخالفة لمسيحيتهم الغربية، ويصدرونها أزمة دائمة في قلب العدوالبعيد وهو أمتنا.
  لم تكن الشعارات المخادعة مثل "الدولة اليهودية"، ومن اليهود شعار "العودة لأرض الميعاد" حيث لا أرض لهم اصلا ولا ميعاد، وشعار "ارض بلا شعب لشعب بلا أرض"، والأرض حافلة بأصحابها، لم تكن مثل هذه الشعارات لدى هؤلاء الا تحقيقا للفكر الاقصائي التوسعي الاستعماري، وليس حبا بأتباع الديانة اليهودية الأوربيين مطلقا، ولاحقا كتكفير عن ذنب قتلهم واضطهادهم لمئات السنين، وعليه تم خلق الأسطورة التي تراكبت مع مطالب اليمين الصهيوني واليمين المسيحي بخرافات الانجاز، واقامة الدولة لليهود تمهيدا لعودة المسيح.
لم ينتهي العقل الاستعماري الرأسمالي الاستغلالي اليوم بل تعملق مع فساد الرأسمالية الشامل وهي التي خلقت في العالم ثقافة التبعية والتكسب وثقافة الخنوع للاحتياجات اليومية والاستهلاك مقابل احتكار الانتاج وادواته، وبالتالي تصدير المنتج ممهورا بتوقيع الاستعمارية-الرأسمالية البشعة التي تجرد الانسان من انسانيته وتجعله مجرد مستهلك يومي لكل منتجاته بغض النظر عن اولوية القضايا التي تهمه مثل التطور والعلم والصناعة والتنمية، وبعيدا عن مؤازرة القضايا الأساسية بالعالم.
 فالعقل الرأسمالي الاستعماري يٌسقط قيم التآزر والتساند والدعم للحق والعدل، ويجعلها سلعة مرتبطة ببعض منظماته الباهتة التي تدعي الدفاع عن حقوق الانسان، في محاولة لإعطاء وجه ذو قيم للحضارة الغربية الاقصائية الاستنزافية للشعوب، والاحتكارية للفكرة والمادة والمصدرة للقيم الاستهلاكية والفرح الممزوج بالإدمان.
لم تكن فلسطين يوما لتشكل خطرا على العقل الاستعماري الغربي ولا على مصالحه الاقتصادية والسياسية، ولم تكن قضية تقض مضاجع الغرب الاستعماري الاستئثاري، وانما كانت قضيتهم هي استنزاف الشعوب والبلدان وثرواتها للأبد، وسحق أعدائهم وجعلهم ينزفون الى ما لا نهاية، في مقابل التصدي للثورات الداخلية والتغيرات.
 كانت مشكلة الاستعمار-الرأسمالية هذا هو في كيفية الهيمنة والسيطرة التي أجاد في تحقيقها اليوم مع تخلصه من العقدة المزمنة المتمثلة بكراهية وعداء المجتمع لأصحاب الديانة اليهودية في بلادهم الاوربية فكان مما هو لزوم أن ينتحر الفلسطينيون والعرب فداء للغرب، وعبر تصديرهم للاوربيين المنبوذبين لفلسطين، وتحت ادعاءات خرافية مذيّلة بتوقيع التاريخ المزور، والدين الإقصائي.
 
calendar_month04/03/2018 08:48 pm