
في هلسنكي،أهدى القيصر بوتين كرة مونديال سوتشي إلى الرئيس الأمريكي ترامب.ولكن في الحقيقية،نجح بوتين بجدارة،في حصد نتائج نهائي مونديال هلسنكي لصالحه،بعد أول قمة تكاملية بينه وبين ترامب استغرقت ضعف الوقت المقرر لها .
يعشق سيد البيت الأبيض العيش داخل العواصف،فبعد أسبوع من توبيخ ترامب لحلفائه في الناتو في بروكسل ،ومهاجمته المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل ووصفها بأنها أسيرة لروسيا ،لاعتمادها على استيراد الغاز منها، ثم عاد لاحقا ليقول إنه يتفهم موقف ألمانيا وحاجتها للغاز. وبعد تقويض موقف رئيسة الوزراء البريطانية في بريكيست، وإغضاب المتمسكين بالبروتوكول الملكي بسيره أمام ملكة بريطانيا، جاء السقوط المدوي لترامب في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع بوتين في هلسنكي.
وكشف المؤتمر،أن ترامب ليس غبيا فحسب،بل ينتمي إلى أسوء أنواع الأغبياء،هذا النوع الذين يعتقدون بأنهم من عباقرة التاريخ. وقد كان الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش قليل الذكاء والثقافة،إلا أنه كان يعرف حدوده،لذلك اتكل على مساعديه ومستشاريه. أما ترامب الذي يظن أنه أعظم عباقرة العصر ،دفع به غروره إلى الإصغاء فقط إلى نفسه وإلى تقدير الأمور بمفرده،حتى الإصرار على لقاء بوتين بدون حضور أي من مستشاريه.بينما بوتين هذا الرئيس الروسي الذي لا يخفي ألمه على انهيار الإتحاد السوفياتي،ويؤمن بأن عديم القلب من السوفيات ،هو من لا يأسف على الإتحاد السوفياتي، وإن من لا يفكر بإعادة القمة إلى الإتحاد السوفيتي هو بلا عقل.باختصار أنه الرئيس الروسي الذي يملك القلب والعقل معا،وهو يلتقي ترامب على هذا الأساس.
ولم يقترف أي رئيس أمريكي في التاريخ جلدا ذاتيا لمصالح بلاده على المسرح الدولي،كما فعل ترامب خلال مؤتمره الصحافي مع بوتين. حيث وقف ترامب في صف بوتين،وضد بلاده وأجهزة استخباراتها،وخالف التقليد الأمريكي وهو ألا يهاجم الرئيس خصومه المحليين خلال جولته الخارجية،وانتقد الحزب الديمقراطي وغباء الأمريكيين وتقييم المجتمع الإستخباراتي. وخرج من القمة مع بوتين أشبه بحطام سياسي.
وأثار المؤتمر سخط واستياء أعمدة الإستبلشمنت الأمريكي،بجناحيه الديمقراطي والجمهوري،الذي رأى أن ترامب ارتكب مخالفات إستراتيجية وتكتيكية فاضحة،ولا تغتفر، منها مستوى الهجوم الذي غاب عن أدائه أمام خصم بلاده ومنافسها التاريخي،وعلى العكس من ذلك، بدا ترامب خانعا أمام القيصر بوتين وهو رئيس دولة عظمى ناتجها المحلي عشرة أضعاف حجم الاقتصاد الروسي،وعلى أي حال،لم يكن المطلوب منه تحدي بوتين ،ولكن كان عليه أن يحسم الجدل بالقول إن القضاء الأمريكي يحسم مسألة التدخل الروسي وليس الرئاسة الأمريكية.
فعندما سئل ترامب عما إذا كان يثق في أجهزة المخابرات الأمريكية التي أوضحت أن روسيا تدخلت في انتخابات الرئاسية ،وساعدته في هزيمة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلنتون، قال ترامب إنه ليس مقتنعا بأن روسيا فعلت ذلك،وأن الرئيس بوتين كان قويا وحاسما في نفيه لذلك خلال القمة، وأرجع ترامب سبب تدهور العلاقات بين أمريكيا وروسيا إلى حماقة وغباء المسؤوليين الأمريكيين.
ولقد ذهب مدير المخابرات المركزية السابق جون برينان بعيدا ،عندما طالب بعزل ترامب من منصبه،واصفا ترامب بأن ليس معتوها فحسب،بل وصلت تصريحاته إلى حد الخيانة العظمى. وأطلق جون برينان نداء استغاثة:أيها الجمهوريون الوطنيون: أين أنتم؟.
أما السيناتور جون ماكين،فقد اعتبر المؤتمر الصحافي بأنه كان أحد أسوأ لحظات تاريخ الرئاسة الأميركية، والأداء الأكثر عيبا لرئيس أميركي . وفي موقف يعكس عمق الفجوة بين ترامب والمجتمع الإستخباراتي،والعسكري الأميركي المتمسك بثوابته الأمنية والإستراتيجية ،خرج مدير وكالة المخابرات الوطنية الأميركية دان كوست ، عن صمته في بيان وتحدى رئيسه متمسكا بتقييم الاستخبارات وقال:" بأن جهازه كان واضحاً وموضوعيا بشأن التهديد الذي مثله التدخل السياسي الروسي في الانتخابات الرئاسية".
ولم ينجح تراجع ترامب عن تصريحاته المخزية ، في امتصاص الغضب الأمريكي ،بل زاد من إرباك مناصريه،وقهقهة مناهضيه. فقد عاد وأقر بتدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية وأكّد ثقته في وكالات الاستخبارات الأميركية.وذلك في لقاء مع أعضاء الحزب الجمهوري من الكونغرس، واعتبر ترامب التدخلات الروسية انتهاكاً صارخاً للديمقراطية الأميركية، واعتبر ما فعلته روسيا فظيعاً ، عندما سرقت معلومات من حزب سياسي أميركي وهاجمته، وقال إن الهجوم على أحد الأطراف هو هجوم على جميع الأطراف!
وفي مقال بعنوان "أسوأ من كيم جونغ أون،لقاء بوتين لم يحقق نجاحاً لترامب،اعتبر الخبير الروسي في العلاقات الدولية، فلاديمير فرولوف،أن أهم ما حصل عليه بوتين، هو الوقوف أمام الرئيس الأميركي،وجرد القضايا الدولية الكبرى التي سيتولى تسويتها من الآن فصاعداً مع ترامب دون النظر إلى الماضي ورأي القوى الأخرى، محققاً بذلك تكافؤاً جيوسياسياً لطالما بحث عنه بوتين.
لقد نجح بوتين في هلسنكي،كما نجح في اختبار المونديال،فطوال الشهر الذي استغرقته مباريات كأس العالم ،لم يحصل خطأ لا في المجال التنظيمي ولا في المجال الأمني.وحقق بوتين اختراقا ذا طابع إستراتيجي في قمة هلسنكي،ووضع الأسس لمثل هذا الاختراق المبني على اتفاق يقوم على بقاء بشار الأسد في دمشق في مقابل تأمين الخروج للإيراني من دمشق ومن مناطق الجنوب السوري. ووضع بوتين أسسا لهذا الاتفاق مع نتياهو أولا ومع الجانب الأمريكي لاحقا.
وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي لم يتعهد خلال المؤتمر الصحفي المشترك بسحب إيران وميليشياتها من الجنوب السوري، فإن حديثه عن ضمان سلام حدود إسرائيل يتطلب إبعاد الإيرانيين عنها، والأرجح أن بوتين قد أطلع ترمب بالتفصيل على المفاوضات التي تردد أنها جرت، عبر الوسيط الروسي، بين الإسرائيليين والإيرانيين خلال وجود بنيامين نتنياهو وعلي أكبر ولايتي في موسكو الأسبوع الماضي. وهي مفاوضات يفترض أنها تركزت على مسألة سحب إيران ميليشياتها من جنوب سوريا.
وفي حين لم يتحدث الرئيسان عن الانتقال السياسي في سوريا ولا مصير الرئيس بشار الأسد، إلا أن ترمب كان واضحاً عندما قال إنه لن يسمح لإيران بأن تستفيد من جهود أميركا وحلفائها في القضاء على آخر جيوب «داعش»، في إشارة إلى تمسك الأميركيين بعدم السماح لإيران بالتمدد شرق الفرات،وبقاء الجنود الأميركيين هناك.
فيما تابع بنيامين نتنياهو القمة بارتياح، أمن إسرائيل بند واضح وثابت. صداقته مع بوتين أضيفت إلى صداقته مع ترامب. أجاز له الرئيس الروسي اختراق المظلة الروسية فوق سوريا لتأديب الوجود العسكري الإيراني. تجربته علمته أن النظام السوري لن يقبل شركاء على أرضه حين يستشعر زوال الخطر،وأن دمشق تفضل في النهاية الوسادة الروسية على الوسادة الإيرانية.
ويبدو أن كلا من ترامب وبوتين يتفقان في نظرتهما لأوروبا، فشعار "أمريكا أولا"، يعد شبيها بذلك السائد في الكرملين ولكن تحت مسمى "الليبرالية الجديدة". فمن جانب، يطمح بوتين إلى إعادة تأسيس الإمبراطورية السوفييتية مرة أخرى، وبالطبع، تعتبر تلك الفكرة مستبعدة في ظل اتحاد أوروبي قوي. كما يرى ترامب أن الاتحاد الأوروبي عليه أن يكون تابعاً لواشنطن.