
لكل كارثةٍ مهما كانت شدّتها تاريخٌ من الصعب جداً تجاوز مواريثهِ ، فيما يخلِّف من كوارث ومآسٍ سياسية واقتصادية وإنسانية صادمة .
هذا ما يعيشه لبنان من كوارث متفاقمة تحت وميض الانفجار وحرارته ولهيب ناره، الذي دمَّر نصف مدينة بيروت وأرعبَ أهلها وقوَّض ثقتها بنفسها ومستقبلها وقيادتها .
هذه الكوارث والأزمات لم تنشأ جرَّاء تدهور الوضع الاقتصادي وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية التي وصلت إلى أدنى مستوى ، وارتفاع معدَّلات البطالة وغلاء أسعار المواد والسلع الأساسية ، هذه هي تجليات الكارثة . ولا نشأت الكارثة بتداعيات الانتفاضة اللبنانية في 17 تشرين الثاني 2019 ، التي أجهضت بالتوظيف السياسي الفائض لتصفية حسابات ، أو خشية نتائج مصالح فردية أو فئوية استقرَّت حتى كادت تزهق روح البَلد وقدرته على قيد الوجود ، وهذه أوضاع انسداد في الأفق السياسي يصعب تجاوزه دون تغيير في البيئة العامة وبنية الحكم والسلطة نفسها .
لقد جسَّد الانفجار بتداعياته واستحقاقاته فشل الدولة بكل مؤسساتها وهيئاتها ومكوناتها والأطراف الفاعلة في معادلاتها .وليست الحكومة وحدها . فالحكومة إذا ما سقطت نتيجة امتصاص الغضب الشعبي العارم وظلَّت المعادلات السياسية على وضعها ، وأعاد النظام الطائفي انتاج نفسه من جديد فإنَّ لبنان يمكنه أن يتطلَّع إلى مغادرة تلك الأزمة الحادَّة المستحكمة . إنَّ تغيير مواقع المسؤولين وتغيير الأشخاص ليس حلاً في بلد دفع الدماء والأثمان الباهظة لتقاسم الثروة والنفوذ والسلطة بين نخب طائفية تتغيَّر وجودهها عبر السنين الطويلة دون أن تمس قواعد اللعبة السياسية أية تعديلات جوهرية في بنيته التي مضى عليها عقود من الزمن .
في العودة إلى تاريخ لبنان نجد أنَّ الأزمة اللبنانية تعود إلى نشأة الدوله نفسها ، فقد كان الجنرال الفرنسي ( جوزيف أوجين جورو) هو من أعلن دولة ( لبنان الكبير ) كدولة مستقلّة ، وأعاد تحميل خرائط عسكرية وترسيم حدود لبنان بالقوة العسكرية معلناً فرض الانتداب الفرنسي على البلدين الممزقين سورية ولبنان بعدما كانا دولةً واحدة قبل هذا الإعلان . كان هذا التقسيم بعد أن صمتت مدافع وصواريخ الحرب العالمية الأولى في شهر أيلول من عام 1920 وفق تفاهمات فرنسية ـ بريطانية . فقد جرت قبل أربعة أعوام من انتهاء الحرب العالمية الأولى اتفاقية ( سايكس ـ بيكو) في نفس الوقت الذي جرى فيه فرض الانتداب البريطاني على فلسطين والعراق ، والتي أرخت بظلالها الكارثية على فلسطين والفلسطينيين ، التي شهدت النكبة الكبرى عام 1948 . هكذا هي الحقيقة ، لبنان لم ينشأ بإدارة اللبنانيين ، وليس هم من أعلنوا استقلال دولتهم . وما زال الفرنسيون يرخون بظلالهم حتى هذا اليوم في صلب الكارثة المستحكمة .
في هذا المقام ما زالت الدول الغربية الكبرى تستثمر هذه الصدامات الدموية التي تفجَّرت في منتصف القرن التاسع عشر بين الموارنة والدروز لطرح فكرة إنشاء ( إمارة كاثوليكية ) . بشهادة ( قسطنطين بازيلي ) القنصل الروسي في بيروت . وهو الذي وثَّق وقائعها لأنه كان في قلب الحدث حيث قال : ( لم تكن العداوة الدينية سبباً في الاقتتال بل نتيجةً لها . إنَّ ما سبق ذكره يؤكِّد أنها حقيقة ثانية ساهمت في إضعاف وتفكيك العالم العربي استثماراً في ثغرات مجتمعاته على كثرتها . وفي عام ( 1932 ) بعد إثني عشر عاماً من إعلان ( لبنان الكبير ) ، جرى توزيع المسؤوليات والمناصب الرسمية والمراكز العليا صاحبة السيطرة بين الطوائف وفق نسبة كل منها إلى التعداد العام للسكان في لبنان الذي تم إجرائه في وقتها . حيث كانت النسبة الأكبر للمسيحيين ، فقد أوضح إحصاء عام 1932 فارقاً واضحا بنسبة 4% لمصلحة المسيحيين، ونسبة تفوّق واضحة للموارنة على باقي الطوائف، حيث بلغت نسبتهم 28.8% من مجموع السكان.وبعد الحرب الأهلية اللبنانية منتصف سبعينات القرن الماضي تعدَّلت النسب ، وتغيَّرت حقائق التوازنات وهذا تجلّى في اتفاقية (الطائف) عام 1989 ،ومنذ ذلك الحين أصبحت ( المحاصصة ) مناصفةً بين الطوائف المسيحية والمسلمة .
من زمن لآخر .. ومن عصرٍ لآخر يعيد النظام الطائفي إنتاج نفسه من جديد حتى تم استنزاف طاقته على البقاء دون أن يغادر مراكز ومواقع السلطة والنفوذ نتيجة لتغلغل المصالح المرتبطة في ماهية المجتمع اللبناني وبنيته وتركيبته . كما في أهداف اللاعبين العرب والإقليميين والدوليين . وهذه أيضا حقيقةً ثالثة تلقي بظلالها على المستقبل اللبناني وتجعل من إعادة بناء الأمل والرغبة بإلغاء النظام الطائفي مهمة عسيرة جداً بل شبه مستحيلة .
من أكبر المخاطر التي يتعرَّض لها لبنان في ظل هذا الانفجار الضخم هو تقويض أية ثقة بالدولة والنخب السياسية التي تتصارع فيما بينها على المناصب والنفوذ ، منجرفةً تحت تيار الطائفية . من أسوأ وأخطر ما جرى بعد الانفجار ارتفاع منسوب المناكفات السياسية بين الفرقاء اللبنانيين على الرغم من أنهم يتحملون بدرجات متفاوتة مسؤولية ما حدث في لبنان وما حلَّ به من ظروف كارثية تقارب الانهيار للدولة ومؤسساتها .
نتيجة الإنفجار الهائل في مرفأ بيروت والخسارات البشرية والمادية الكبيرة تدافعت العديد من الدول العربية والغربية لمد يد العون والمساعدة للبنان ، ومعظم تلك المساعدة كانت تخفي دواعي استراتيجية ، بعضها مدفوعة بالتضامن والتعاطف ، وبعضها الآخر سعياً لاستثمار واقتناص الفرص وتوظيف الإنفجار وفق مصالحها الاستراتيجية في هذه المنطقة الهامة من العالم .
وتشير الكثير من المعطيات أنّه على الأرجح بعد انتهاء أحاديث العلاقات العامة أنَّ أحداً لن يضخ دولاراً واحداً بلا اشتراطات مسبقة . مع العلم أن خسائر الانفجار تقدَّر بنحو عشرة آلاف أوخمسة عشر مليار دولار، ولا يوجد مَن يسدِّد الفواتير. ترافق ذلك مع الدعوة بصوتٍ مرتفع لعودة الانتداب الفرنسي في بيان موقَّع من عشرات الآلاف من الشعب اللبناني في أثناء زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون . وهذه العملية تشبه الضربة على الدماغ لأنها أفقدت بعض مكونات الشعب اللبناني اتزانه السياسي والنفسي ، وهذا يساهم في تقويض السلم الأهلي .