شهد التاريخ العربي الإسلامي رجال فكر وسياسة ودبلوماسيين مميزين، جغرافيين واثنوغرافيين، علماء وفقهاء وأطباء ومهندسين، ترك كل منهم أثراً ما زال ماثلاً للعيان منذ مئات السنين. فقد ساهموا من خلال علومهم ومعارفهم، في بناء الحضارة العربية والإسلامية الإنسانية، كما ساهموا في استكشاف وفهم الآخر غير العربي، وكان لابن فضلان (الذي عاش في العصر العباسي زمن المقتدر)، دور هام وفاعل في تجسيد النظرة الإسلامية للآخر، ونقل تلك الصورة بشكلها الأمثل، كما نقل مشاهداته العيانية بطريقة تكاد تكون الفريدة من نوعها في العالم. فقد كان أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد رسول الخليفة العباسي المقتدر إلى ملك البلقار. واحداً من أهم الدبلوماسيين العرب بما يمتاز به من حسن التصرف وسعة الرؤية والذكاء الحاد والعين الثاقبة التي ترى أدق الأشياء وأصغرها، وقدرته على نقلها وتصويرها من خلال وصفها بدقة عالية. فقد ترك لنا وثيقة من أهم الوثائق الاثنوغرافية (1) في العالم، وصف فيها رحلته وما شاهده مصوراً بتفصيل شديد حياة البلغار والروس وحضارتهم وعاداتهم وتجارتهم، حيث صور البلقار كيف يعيشون وإنهم دون ما وصل إليه العرب في مدينتهم، فقد احتلت رحلة ابن فضلان إلى بلاد البلقار في القرن العاشر الميلادي، مكانة فريدة في الاثنوغرافيا وتاريخ الرحلات الوصفية الاثنوغرافية، حيث تعد أخبارها من المصادر المهمة في دراسة اثنوغرافيا الصقالبة الذين هم من السلاف شعوب شرق أوروبا ويأتي في مقدمتهم الروس والأوكرانيين والبلروس والبولنديين والجك والسلوفاك والبلغار. إضافة إلى دراسة أحوال الخزر والتتر اثنوغرافياً. فقد رحل الوفد برئاسة ابن فضلان من بغداد يوم الخميس 11 صفر 309هـ الموافق لـ 21 حزيران 921م وصعد شرقاً وشمالاً ماراً بإقليم الجبال (كروستان) فهمدان الري خراسان ثم بخارى في أوزبكستان ثم خوارزم، وبعد مسيرة شاقة وصلت البعثة إلى بلاد الخزريين وهم قبيلة من الأتراك يقيمون قرب كازاخستان الحالية.‏
لقد رسم ابن فضلان صورة واضحة لشعوب تلك المناطق وصور عادات أهلها وأخلاقهم وتقاليدهم وحياتهم الاجتماعية تصويراً دقيقاً لا نجده إلا نادراً في بعض المخطوطات التي تخص ذلك العصر. لقد انتشرت نسخ الرسالة بشكل كبير في القرن السابع الهجري، لكنها فقدت وأصبح من غير الممكن الحصول عليها بسهولة. وقد تنبه المستشرقون إلى أهمية هذه الرسالة ودورها في كشف الكثير من صور حياة البلقار، حيث اعتبرها الكثيرون أنها دراسة انثروبولوجية متكاملة عن حياة البلقار، أما البعض الآخر من المستشرقين فقد اعتبرها وثيقة اثنوغرافية هامة.‏
وهكذا بدأ المستشرقون يبحثون في الكتب والموسوعات والمراجع العربية حول تلك الرسالة الهامة، فجمع المستشرق فرين ما نقله ياقوت الحموي وغيره من هذه الرسالة ونشره سنت بطرسبرغ في عام 1822 في طبعة عربية بذل في تحقيقها جهوداً كبيرة. وبعد قرن كامل، أي في عام 1922، وبعد نشر مجموعة فرين، اكتشف العالم التركي (زكي وليدي طوغان) في مدينة شهد (طوس) نسخة مخطوطة من (رسالة ابن فضلان) فكان ذلك حدثاً علمياً عظيماً غير سير الدراسات عن هذه الرحلة الشائقة، وكانت هذه المخطوطة تحتوي على أربعة رسائل إحداها رسالة ابن فضلان، ولكن آخر المخطوطة كان مبتوراً... مخروماً.. ولذلك بقيت الرسالة ناقصة. لقد تضمنت رسالة ابن فضلان وصفاً دقيقاً لمفردات حياة البلقار حيث أكد في غير موضع أن للبلقار عادات غريبة وطريفة، فهم يتباركون بعواء الكلب، ويعتبرونه مبشراً بسنة خصب. ويأكل كل واحد من مائدته لا يشاركه فيها أحد، ولا يتناول من مائدة غيره شيئاً، (كل من زرع شيئاً أخذه لنفسه، ليس للملك فيه حق، غير أنهم يؤدون إليه من كل بيت جلد ثور، وإذا أمر سرية بالغارة على بعض البلدان كانت له معهم حصة، وكلهم يلبسون القلانس، فإذا ركب الملك وحده بلا غلام ولا أحد معه. فإذا اجتاز في السوق لم يبق أحد إلا وقام وأخذ قلنسوته عن رأسه تحت إبطه، فإذا جاوزهم ردوا قلانسهم فوق رؤوسهم، وكذلك كل من يدخل على الملك من صغير وكبير، حتى أولاده وإخوته) (2).‏
إن ما تطرقت إليه رسالة ابن فضلان دفعت العديد من المستشرقين إلى دراسة مضمونها، فقد قام (زكي وليدي طوغان) بتحقيقها والتعليق عليها وترجمتها إلى اللغة الألمانية، وقد أكمل ما كان ناقصاً منها من خلال اطلاعه على المخطوطة الأصلية التي قارنها مع ما أورده ياقوت الحموي وغيره، كما أضاف إليها نصوصاً هامة من الجغرافيين العرب، ونشر نصها العربي مع ترجمة ألمانية في العام 1929.‏
إن أكثر من عني برسالة ابن فضلان (بعد العديد من الأبحاث والدراسات التي ظهرت بعد ذلك التاريخ) المستشرق الأوكراني (كوفاليفسكي) من خاركوف الذي كتب العديد من الأبحاث والدراسات الموثقة بنصوص من الرسالة منذ عام 1929، فقد أصدر ترجمة روسية لرسالة ابن فضلان مع تعليقات وشروح مستفيضة. وصورة فوتوغرافية للرسالة كلها منقولة عن مخطوط مشهد، إضافة إلى ما سبق فقد كتب المستشرق الكبير كراغشوفسكي مقدمة لهذا الكتاب تضمنت دراسة قيمة للرحلة وصاحبها. ثم اتخذ كوفاليسكي تلك الرسالة فيما بعد أساساً لرسالة الدكتوراه التي كتبها عن ابن فضلان في العام 1950. (3) وتضمنت الرسالة معلومات جديدة ورؤى جديدة لطبيعة الحياة في البلقار وروسيا وهي تصور بعين ثاقبة (اثنوغرافية) عصر ابن فضلان وشخصيته. لقد علق الباحث كراغشوفسكي أن دراسة ابن فضلان دخلت في طور جديد بفضل هذا البحث ولكوفاليفسكي مقالات وأبحاث عديد عن ابن فضلان ورحلته في المجلات العلمية والدوريات السوفيتية (أيام الاتحاد السوفييتي السابق)، كما كتب المستشرق الألماني (ريتر) في عام 1942 دراسة موسعة ونقداً لدراستي (زكي وليدي طوغان وكوفالفسكي) وأضاف إليهما معلومات مفيدة، وصحح كثيراً من العبارات التي وردت في متن الرسالة. وكان آخر الدراسات التي صدرت عن (رسالة ابن فضلان) هي التي كتبها (ريغارد فراي) الأستاذ في جامعة (هارفارد) الأمريكية في عام 1979. وقد تضمنت الدراسة ملاحظات مهمة عن الرسالة. مع ترجمة إنكليزية للفصول التي لم تسبق ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية وهي الفصول التي لم ينقلها ياقوت الحموي في كتابه الضخم (معجم البلدان) وقد حلل (ريغارد فراي) المعلومات الجديدة التي أضافتها الرسالة إلى ما نعرفه عن البلدان والأقوام التي سرت بها البعثة وهي معلومات اثنوغرافية وطوبوغرافية وغيرها تتعلق بشعوب تلك الأقاليم وأديانهم وعاداتهم الاجتماعية وملابسهم ولغاتهم وكتاباتهم وحكوماتهم وشؤونهم السياسية.‏
لقد نالت (رسالة ابن فضلان) اهتماماً كبيراً لما تضمنته من معلومات وأفكار، وهذا ما دفع العديد من المترجمين إلى ترجمتها إلى لغات عدة، فإلى جانب الترجمتين الألمانية والروسية واسعتي الانتشار، ترجمت الرسالة (رسالة ابن فضلان) إلى اللغة الهنغارية ومما يدل على اهتمام الهنغاريين (المجر) برسالة ابن فضلان ما قاله الدكتور شاندور فودو، الأستاذ بقسم الدراسات العربية في جامعة بودابست في محاضرة ألقاها في مؤتمر (الجمعية الإسلامية) الذي عقد في تلك الجامعة في 11 شباط 1982 بعنوان (تاريخ حركة البحوث الإسلامية في المجر):‏
(إن تاريخ الشعب المجرية قبل توطنه الحالي يستمد معلوماته الأساسية من مصادر كتابات الرحالة المسلمين ومؤرخيهم وجغرافييهم الذين ندين لهم بالشكر والامتنان ومنهم: ابن فضلان، وابن رسته، والبكري والمسعودي وعشرات غيرهم) (4) كما تم ترجمة رسالة ابن فضلان إلى اللغة التركية مرتين، الأولى نشرها (لطفي طوغان) في مجلة الإلهيات ـ جامعة استانبول العددان 1 ـ 2 عام 1954 صفحة 58 ـ 80. أما الترجمة الثانية فقد نشرها (رمضان ششن) في كتاب مستقل. كما ترجمت الرسالة إلى اللغة الفارسية نشرها أبو الفضل الطبطبائي في طهران عام 1345م، وترجمة إلى اللغة الإنكليزية وترجمها (R.N.Frye, R.P.Blake)، كما ترجمت إلى اللغة الفرنسية ونشرت في الجزائر عام 1958، إضافة إلى أنها نشرت باللغة اليابانية.‏
أما اللغة الأساسية لرسالة ابن فضلان فقد كتبت باللغة العربية، حيث كانت الصيغة الوحيدة للرسالة بالحروف العربية هي التي نشرها زكي وليدي طوغان، لأن الدراسة التي نشرها كوفاليفسكي اكتفت بنشر الصور الفوتوغرافية لمخطوط مشهد، ولم تعن بطبع النص بحروف الطباعة العربية. ولذلك فإنها لم تكن نافعة للقارئ العربي لصعوبة قراءة المخطوطة وكثرة ما فيها من نواقص ومواضيع مبتورة ومخرومة. ومع ذلك فإن طبعة زكي وليدي طوغان التي كانت الطبعة الغربية الوحيدة تحتوي على أخطاء كثيرة، وهي نادرة لأنها ظهرت في مجلة ألمانية يصعب الحصول على نسخ منها. ولذلك عني بأمر هذه الرسالة الباحث السوري المرحوم الدكتور سامي الدهان منذ العام 1951 بإشارة من المرحوم محمد كرد علي، فحققها وعلق عليها ونشرها في دمشق. لقد كان لتغلغل ابن فضلان في روسيا الجغرافية دور هام في كشف الحياة العامة لتلك البلاد، لم يذهب إلى ما كان يؤلف (بلاد الروس) أو (الدولة الروسية) في تلك الأيام، ولكنه قابل خلال سفرته كثيراً من الروس الذي كانوا يمرون ببلاد البلقار في تجارتهم، وأفرد للتحدث عنهم فصلاً عن رسالته. يقول: (ورأيت الروسية، وقد وافوا في تجارتهم، ونزلوا على نهر اتل، فلم أر أتم أبداناً منهم كأنهم النخل، شقر، حمر.. إلخ)، وقد قال فيه المستشرق الروسي (نيورسكي) إنه كان دقيق الملاحظة. وقد وصف حفلة حرق وتأبين روسية وصفاً دقيقاً رائعاً، حتى لقد استطاع أحد رسامي الروس منذ ستين عاماً أن يرسم اعتماداً على هذا الوصف صورة لهذا المشهد الرهيب، تزين الآن أحد جدران متحف من أهم المتاحف المشهورة في موسكو وهو متحف (تترياكوف).‏
من ناحية البعثة الدبلوماسية التي قادها ابن فضلان في العصر العباسي زمن المقتدر إلى ملك البلقار لم تنجح من الناحية السياسية، فقد كانت مهمة البعثة هي إدخال الخزريين في الإسلام وتقوية علاقات ملك البلقار بالخليفة. إلا أن ابن فضلان ترك رسالة ثمينة أصبحت مصدراً من أهم المصادر عن تاريخ الأصقاع التي زارها، وعن الحياة الاجتماعية فيها. كما أن رسالته ربما كانت أول كتاب اثنوغرافي يكتبها دبلوماسي عربي قبل ألف عام بالأسلوب الاثنوغرافي الذي يدرس في الأكاديميات العلمية. في يومنا هذا. عادت البعثة إلى بغداد في ربيع عام 1922، دون تحقيق أهدافها السياسية كاملة، فالخزريون لم يدخلوا الإسلام وملك البلقار فقد الثقة في مساعدة الخليفة، بعد أن أرسل ملك البلقار إلى الخليفة يطلب إرسال من يعلمهم الإسلام ويمده بالعون على أعدائه، وأن يرسل له الخزريون حصناً يتحصن به ضد أعدائهم. إلا أن ابن فضلان ترك رسالة اثنوغرافية علمية ثمينة تعتبر مصدراً علمياً هاماً لدراسة تلك الأصقاع.‏
الهوامش:‏
1 ـ الاثنوغرافيا هو علم وصف الشعوب والأقوام وتحدد بتسجيل المادة الثقافية ووصف أوجه النشاط البشري. راجع د. مجيد حميد عارف /الأنثوغرافيا والأقاليم الحضارية بغداد 1985 صفحة 24.‏
2 ـ رسالة ابن فضلان طبعة الدكتور سامي الدهان ـ دمشق 1959 صفحة 129.‏
3 ـ نشرت رسالة الدكتوراة في خاركوف عام 1950 بعنوان (ابن فضلان) ثم صدرت لها طبعة أخرى موسعة في خاركوف أيضاً عام 1956 في 347 صفحة من القطع الكبير انظر نشرة ببلوغرافيا الأعلام قاموس المنجد طبعة عام 1999 بيروت.‏
4 ـ د. محمد التونجي (أول جمعية إسلامية تنشأ في المجر) مجلة العربي العدد 83 حزيران 1982 الكويت صفحة 84.‏
calendar_month16/08/2020 10:49 am