
كان لبنان ولا يزال حاضناً لكل معذَّبي الأرض في بلادنا العربية ، فقد حلَّت كارثة انفجار مرفأ بيروت في العنبر رقم 12 كالصاعقة وارتداداتها على عقل وقلب كل عربي ، إنَّ ما واجهه لبنان عبر مسيرته منذ الاستقلال كان كبيراً صعباً وقاسياً، تحمَّل الشعب اللبناني خلالها الكثير من الظلم والقهر والمآسي . وما يكاد يخرج من محنة ويتعافى منها حتى يُدخِله القَدَر في محنةٍ أقسى وأشد ، لكنَّ المماحكات والبكائيات العبثية ليست الحل ،وليست الجواب الشافي على الظروف القاسية والمآسي التراجيدية الكبرى . وهذا ما يدفعنا إلى مزيد من التساؤلات بشأن مسبباتها الحقيقية دون مواربة ، كما يدفعنا باتجاه البحث عن طريق للخروج منها ،واتخاذ كل السبل والإجراءات للوقاية منها لمنع عودتها هي ومثيلاتها من جديد .
لقد شاهدنا مئات الآلاف بل الملايين من الشعب اللبناني يطالبون في مظاهراتهم بنصب المشانق في شوارع بيروت لإعدام الطبقة السياسية الفاسدة ، والتي انتخبها الشعب وعزَّزها وقوَّاها دون إدراك منه ما ستفعل به عندما تتمكن من اتخاذ قرارات مجحفة بحقه ، بخاصةٍ وأنَّه تعايَشَ مع ما هي غارقة فيه من فساد وابتذال المواقف السياسية بصبرٍ منقطع النظير . ورضخ بعض أبناء الشعب اللبناني وقبلوا أن يكونوا من أزلام السلطات الفاسدة المطيعين . لقد كانت حناجر المتظاهرين تصرخ بأعلى صوتها تهزُّ الضمير الإنساني وهم يلوِّحون بقميص يوسف ويطالبون بقوة بمعاقبة هذا الذئب أو ذلك . من أفراد الطبقة السياسية الحاكمة الظالمة .
هذا يفرض علينا سؤالاً صريحاً وواضحاً ، هل ستصوِّت الأغلبية السكانية لأصحاب النزاهة والكفاءة والقيم الأخلاقية السامية في الانتخابات المبكرة التي ينادي بها المتظاهرين . دون اعتبار لاسم الشخص واسم عائلته وطائفته دون أخذ توجيه من فقيهٍ أو قِسّ أو رئيس ميليشيا ،أو بعض المحطات الفضائية . واستكمالاً لسؤالنا الأوَّل هل الانتخابات المبكِّرة والقانون الانتخابي الجديد يحققان قضيةً تجاوز ثقافة فئوية دينية طائفية مذهبية ، منتمية إلى قوانين قبلية وعشائرية وإلى ضغوط أفراد من سكان قريةٍ ما ، في مجتمع لا يريد أن يتجاوز إرهاصات التاريخ وارتكاساته ونكوصه . وتفضيل الجزء القليل على الكل الكثير ، والاستكانة للهويات الصغرى على حساب الهويات الكبرى الجامعة .؟ لقد مضى أكثر ما يقارب القرن من الأسئلة التي تراوح مكانها وتخفي الاجابات الحقيقية وراء الأقنعة المتبدِّلة باستمرار ، انَّ كثيرين هم الذين سيطرحون الأسئلة نفسها وسيحصلون بالتالي على الأجوبة ذاتها . نعم إنها صراحة مؤلمة . أنَّ كل إنسان عربي حر يعشق ويقدِّس لبنان العربي العروبي يريد أن يتعافى لبنان من كل محنه ومآسيه .
في هذه اللحظات القاسية والمؤلمة من تاريخنا العربي يقبع لبنان والعراق وسورية وفلسطين والأردن في مواجهة أعتى استعمار عنصري في التاريخ الحديث والمعاصر ، فنجد الكيان الصهيوني يتدخَّل ويحاصر ويبتز بلداننا وشعوبنا . كما تتدخَّل قوى الظلام الحاقدة تحت العديد من المسميات مثل الجهاد التكفيري الإرهابي ، الذي يتدثَّر بعباءة الدين والدين منه براء . الشعوب العربية تعاني الأمرَّين وينتظرهم مستقبل عاصف محفوف بالمخاطر كل واحد مستفرد به ليواجه المصائب والكوارث والأهوال وحده .
إنَّ جملة الصراعات والنزاعات البينية والعربية والإقليمية والدولية تدفعنا للتساؤل التالي الهام: ما الذي يمنع قوة أو جبهة أو أكثر رسمية في لبنان أو في غيره من البلدان أن يوقف مؤسسات مدنية سياسية في هذا البلد أو ذاك من طرح مشروع في شكل تضامني ينتقل في الحال إلى اقتصاد متكامل ، ومتساوق مع الحاجات الضرورية للشعب . وإلى موقف واحد من مشروع صفقة القرن ومقاومته ، وإلى توحيد الجهود من أجل التصدي للإرهابيين ، وإلى تيار متفق ومتعاضد داخل الجامعة العربية والدوائر السياسية الإقليمية والدولية . من الوقوف معاً والتعاون الوثيق الفاعل ، بل وتوحيد القوى والطاقات حيث أمكن . مع العلم أن الجميع مهدَّد في وحدة الوطن العربي وجغرافيته وما يعيش فيه من إثنيات . ويتعرَّضون نتيجة ضعفهم في هذا الشأن أو ذاك لحالةٍ من الضغوط الهائلة ، وبالتالي جميعهم في خندق الضحية . وهنا يمكننا أن نطرح التساؤل التالي : أليس كل هذا كافياً كي يخرج قادتهم من عادة الاكتفاء بالتفرُّج على سقوط الآخرين وينتظرون دورهم ؟. ثم البكاء المُرّ على مُلك لم يحافظوا عليه كالرجال . كما قالت والدة آخر ملوك غرناطة الذي بكى وهو يسلِّم مفاتيح قصر الحمراء للقشتاليين .
وهنا نرصد ردود أفعال الكثيرين الذين يرون أنَّ بلدهم لبنان المحاصر ، المفجوع والمنهك ، يجب أن تكون الإجابة على تساؤلاتهم ومطالبهم بتبني شعار الحياد المشبوه ، الرامي إلى عزله وتهيئته ليكون ذليلاً وتابعاً لهيمنة الكيان الصهيوني ، أو تابعاً للاستعمار الفرنسي بقالبه الجديد كما طرحه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. الذي تجاوز في زيارته للبنان حدود التضامن والتعاطف الإنساني والاجتماعي إلى ما هو أبعد سياسياً وثقافياً واقتصادياً .فمن المؤكد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهو يولي وجهه شطر مدينة بيروت يستحضر أمجاد الاحتلال الفرنسي في الماضي وأحلام الإمبراطورية الفرنسية التي تواجه مصاعب جمَّة وشديدة في استعادة ألقها وحضورها في الرمال المتحركة للمنطقة.ففرنسا التي طالما اعتبرت نفسها مسؤولة بشكلٍ أو آخر عن لبنان، ولا سيما المسيحيين فيه، لديها هذه المرة مشروع بدعم غربي، مدروس بعناية ،وستستغل ضعف النظام السياسي بعد انفجار المرفأ لتحقيقه.
لقد طالب الشعب اللبناني من خلال مبادرة يتم طرحها بقوة تبعده عن الابتزازات التي وردته وانهالت عليه من كل حدبٍ وصوب ، والتي عانى منها الكثير الكثير .
إنَّ مجمل ما حدث ويحدث في لبنان ينطبق على كافة أقطار الوطن العربي وليس لبنان وحده ، ومن يعتقد غير ذلك فهو مخطئ . أما شعبنا العربي فإنه يستغرب من حالة اللامبالاة الذهنية غير المتزنة والمُربِكة التي تمرُّ بها أقطار وطننا العربي تجاه نكبات أمتنا العربية التي تعيشها حالياً .هذه اللامبالاة صارت سلوكاً مخجلاً سوف يسوقنا باتجاه الانتحار الحضاري واليأس وفقدان الثقة .
سنبقى نتساءل ونبحث عن أجوبة تكون إيجابية وشفافة وصريحة تُخرجنا من الليل الدامس إلى نور الحياة ، من أجل حياة إنسانية كريمة حرَّة وأكثر عدلاً .