
ما جرى في مرفأ بيروت يوم 4 آب الجاري ،أعاد أزمة الدولة اللبنانية إلى واجهة السياسة العربية والإقليمية والدولية ، مع أنَّ هذه الأزمة لها جذور تاريخية وحديثة ومعاصرة امتدت منذ أكثر من مائة عام، وتحديداً منذ عام 1868 م ،عندما تم اجتزاء قطعة من بلاد الشام وتم تسمبتها بمتصرفية جبل لبنان وهو نظام حكم أقرَّته الدولة العثمانية ، وعُمِلَ به من عام 1861 وحتى عام 1918 ، هذا لبنظام جعل جبل لبنان منفصلاً من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام تحت حكم متصرِّف أجنبي مسيحي عثماني غير تركي وغير لبناني ، تقوم الدولة الغثمانية بتعيينه بموافقة الدول الأوروبية العظمى الست ، وهي بريطانيا وفرنسا وروسيا وبروسيا وإيطاليا والنمسا ، وقد استمرَّ هذا النظام حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وإعلان الانتداب الفرنسي . هذه الأزمات تفاقمت بشكلٍ متسارع خلال الخمسين سنة الأخيرة ، وكان اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري قد أوجد مفصلاً مهماً من مفاصل الحياة السياسية اللبنانية . لكن هذه المرّة كانت كارثة الانفجار مفارقة ومختلفة عن سابقاتها من الأزمات لوجود ثلاثة أحداث كبرى كان لها تأثير كبير وواضح في الأزمة .
أولها : أنها جاءت مع تفاقم جائحة كوفيد 19 ( كورونا ) منذ شهر شباط الماضي ، وارتفاع نسبة الإصابات خلال الأسبوعين الأخيرين ،أي ما قبل الانفجار الضخم الذي هزَّ بيروت وضواحيها .
ثانيها : استمرار تزايد المعاناة التي يعيشها اللبنانيون بتهديد وجود الدولة اللبنانية ، وهذه القضية تتعلَّق بالعقد الاجتماعي المتعلِّق في الفلسفة الأخلاقية، والسياسية وهو نظرية أو نموذج تبلور في عصر التنوير، ويهتم عادة بمدى شرعية سلطة الدولة اللبنانية على الأفراد من الشعب اللبناني . كما يشعر اللبنانيون بالتهديد من زوال دولتهم من ناحية شرعية نظام الحكم ، سواء بدستور عام 1943 ، أو بميثاق الطائف عام 1989 الذي تم تكريسه بعد الحرب الأهلية الطاحنة التي دامت أكثر من خمسة عشر سنة .
لقد جاءت كارثة انفجار مرفأ بيروت والعنبر رقم 12 ليزيد من معاناة اللبنانيين ، إضافةً إلى أزمة النفايات ، والبنزين ، والمازوت ، والكهرباء، وعجز المصارف ، وتلوُّث المياه ، وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية إلى أدنى مستوياتها . لدرجة أصبح فيها أكثر من نصف اللبنانيين دون خط الفقر ، مما اضطرَّ التجار وأصحاب المحلات التجارية والخدمية والسياحية إلى الإغلاق ، كما تم الاستغناء عن خدمات نحو أربعمائة ألف عامل ، فضلاً عن أنَّ ثلاثة مائة ألف إنسان أصبحوا بلا مأوى .
ثالثهما : على الرغم مما حدث ويحدث في لبنان فإنَّ انتفاضة 17 تشرين الأوَّل 2019 ما زالت مستمرَّة ، ولعلَّ أهم مطالبها تنحية الطبقة السياسية الحاكمة منذ عشرات السنين بسبب فشلها ، وفسادها المستشري في الجسد الحكومي ، والتوجُّه نحو عقد اجتماعي جديد يتجاوز الطائفية المقيتة ، ويؤسِّس لدولة المواطنة ، وهذا يتطلَّب تعديل الدستور ، وسن قانون انتخابي جديد يأخذ بعين الاعتبار النسبية التي يجب أن تكون أساساً له .
الجدير بالذكر أنَّ معظم هذه المطالب كانت صعبة جداً ومن شبه المستحيل تحقيقها ، بخاصة إعادة الاعتبار للدولة ، وهيبتها ومكانتها على الصعيد المحلي والعربي والإقليمي والدولي، والتي يجب أن تعلو على الجميع ، فإنَّه بعد التطورات التي جرت مؤخراً ، والتي أدَّت إلى استقالة الحكومة أصبحت هذه القضايا مطروحة ً على بساط البحث ، وإن لم تتحقَّق هذه المطالب كلها ، لكن تم إدراجها في برامج أوساط أحزاب وقوى سياسية ، ومعها طيف واسع من الشعب اللبناني وتحديداً النخبة منه . وهذا من الممكن أن يمهِّد إلى إحداث تغييرات تدريجية ، وعلى مراحل متلاحقة ، إذ لم يعد يحتمل استمرار الوضع الصعب جداً على ما هو عليه .
في الحقيقة لا يمكن للبنان أن يخرج من أزماته الحادَّة والمعافاة التامة دون القيام بإجراء إصلاحات جوهرية وجذرية ، ومحاربة الفساد والمفسدين الذين هم أكبر داء يعاني منه لبنان . واستعادة الأموال الضخمة المسروقة والمنهوبة في وضح النهار ، والتحقيق والمساءلة على التراخي والتقصير وسوء الإدارة ، والعبث دون مبالاة بحياة الناس وحقوقهم . غير متناسين ما ألمح إليه الرئيس الفرنسي إيماويل ماكرون خلال زيارته لبيروت إثر الانفجار الضخم في المرفأ . ومن المفترض أن يعود لزيارة لبنان ثانيةً في الأوَّل من شهر أيلول القادم .
إنَّ التغيير هو حاجة لبنانية قبل أن يكون مطلباً للقوى الخارجية مهما كان دورها الدولي . وهذا المطلب بيد اللبنانيين أنفسهم بالدرجة الأولى ، لا سيما إذا بادروا بشكلٍ عملي إلى وضع عقد اجتماعي جديد . فإنَّ الدول الشقيقة والصديقة وبقية المجتمع الدولي ، يمكنها وقتذاك أن تقدِّم لهم الدعم المطلوب . وبالتأكيد هناك الكثير من العقبات والضغوط الهائلة على هذا الصعيد ، منها تهديدات الكيان الصهيوني المستمرة ، وتحديات القوى الإقليمية والدولية ، التي ترغب بقوة أن يكون لها حصّةً مؤثِّرة في التوافقات السياسية على اختلاف توجهاتها ، وإبقاء القديم دون أي إجراءات تغيير يصبُّ في مصلحتها .
من وجهة نظري أرى أنَّ على الشعب اللبناني أن يعمل على تأكيد المواطنة والتنمية المستدامة ، وعلى أساس الهوية اللبنانية الجامعة ، إضافةً للإقرار باحترام الخصوصيات والتنوع والهويات الفرعية ، ويمكنه تجاوز محنته القاسية الراهنة إذا تجاوز الطائفية المقيتة .
كل ما نرجوه أن ينهض لبنان ويخرج من محنته . ويبقى معافىً في محيط الوطن العربي الكبير ، ويعاود ممارسة دوره الحضاري والثقافي والفكري كجسرٍ للقاء الثقافات العربية والعالمية . فالشعب اللبناني شعبٌ مبدع ويملك طاقات هائلة وحيوية ونشاط .وهو يملك القدرة الكافية للتمسُّك بالمواطنة العابرة للطائفية . من أجل تحقيق التنمية المستدامة بجميع جوانبها الاجتماعية والثقافية والسياسية والتربوية والقانونية وغيرها . كما يملك الشعب اللبناني من أجل الخروج من أزماته القدرة على ضمان عيش المواطن وحقوقه الإنسانية ، في ظل دولة تعلو مرجعياتها جميع المرجعيات السياسية أوالدينية أوالإثنية أوالمناطقية أو العشائرية ..إلخ .
ولا بُدَّ من السير في تحقيق هذه الدولة عبر مصالحة تاريخية بين الدولة والمواطن . بحيث يشعر المواطن بأنَّ الدولة هي دولته ، وهي التي ترعى مصالحه ، وتعمل على تحسين الأوضاع المعيشية والخدمية والصحية ، وتوفير فرص العمل للمواطنين إلخ ... كل هذا يعزّز من ثقة المواطن ووعيه بالدولة وهذا ما نرجوه أن يتحقَّق في قابل الأيَّام . .