بعد أن أمضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ستة عشر عاماً من العمل والجهد الدؤوب يشهد لها العالم أجمع بأنها تستحق لقب المرأة الحديدية،ففي عهدها برزت في هيئة سيدة القرار الأوروبية صاحبة الرأي السديد ،وها هي تغادر المشهد السياسي في منعطف حرج بالنسبة للاتحاد الأوروبي .الذي يعاني من معضلات بنيوية وأساسية في هيكله، وتتراجع مكانته الاستراتيجية بشكلٍ ملحوظ في عالمٍ سيشهد تعدد الأقطاب، ربما تشارك فيه الصين وروسيا .كما يواجه الاتحاد الأوروبي تحدياتٍ مستقبلية وأسئلة شائكة بشأن الوجهة والخيارات.
صعدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى زعامة حزبها ،الحزب الديمقراطي المسيحي CDU بعد أن تدحرجت رؤوس قادته الكبار على وقع الفضائح المتتالية، وما كان من المتصوّر أنها ستقود بلادها وأوروبا بقوةٍ واقتدار مدة ستة عشرة عاماً كاملة. 
   مع نهاية عهد المستشارة الألمانية ميركل يفقد الاتحاد الأوروبي زعيمة قوية اضطلعت بدور أساسي وجوهري في اتفاقات تطوير الاتحاد الأوروبي وتقدمه على الصعيد العالمي .وأمسكت بزمام مشروع الوحدة الأوروبية في منعطفاتٍ حرجة مرّ بها الاتحاد . فما إن تقلدت السيدة أنجيلا ميركل المستشارية في جمهورية ألمانيا الاتحادية عام 2005 م بعد المستشار السابق هيلمت كول حتى وجدت نفسها في مواجهة استحقاق قيادة القاطرة الأوروبية جميعها ،والتي التحقت بها مزيد من العربات المحملة بالأعباء والتكاليف الباهظة مع توسّع رقعة الاتحاد شرقاً ،وتوالي المنعطفات الحرجة والإنزلاقات على السكة التي سار عليها قطارها .
لقد تم اعتبار المستشارة أنجيلا ميركل سيدة القرار الأوروبي،التي تملك كاريزما خاصة بها ، وإنّ جانباً من هذا الامتياز تحقّق لها نتيجة لضعف المشهد القيادي عبر القارة الموحدة. فقد انهمكت المملكة المتحدة مثلاً خلال خمس سنوات مضت بمفاوضات خروجها الشاقة والمعقدة من الاتحاد الأوروبي، وتراجعت فعالية القيادة الفرنسية ودورها بعد عهد الرئيس فرانسوا ميتران والرئيس جاك شيراك، ونشبت في أنحاء فرنسا اضطرابات جماهيرية صاخبة وعارمة حملت مطالب اقتصادية واجتماعية .فلجأت وجوه الحكم والسلطة إلى منافسة أقصى قوى اليمين بأداء شوفيني متعصب (شعبوي) واضح المعالم، لا يتردد أحياناً حيال الاستفادة من الأساليب اليمينية المتطرفة التي تتسم بالعنصرية المفرطة. أما إسبانيا فقد انشغلت إضافةً إلى متاعبها وظروفها الاقتصادية الصعبة بأزمة إقليم كاتالونيا الذي أعلن رمزياً الاستقلال من قبل البرلمان في 27 تشرين الثاني عام 2017 م ،وهو اليوم الذي سعى إلى الانفصال، وتقلّبت إيطاليا بين تشكيلات حكومية حادة تصدرتها حالة يمينية متشددة شعبوية ،علاوة على أعباء المديونية الهائلة المتثاقلة التي تقع فوق كاهلها، وانشغالها الزائد بصد قوارب المهاجرين، وتدفق اللاجئين من القارة الإفريقية .
ثم فرضت جائحة كوفيد ١٩(كورونا) أولويات طارئة على جدول الأعمال القيادي عبر أوروبا التي ارتبكت وعاشت حالة من فقدان مؤقت للتوازن ،ابتدأ من إدارة الموقف الداهم والمباغت. ثمّ سجّل الاتحاد الأوروبي حضوره القوي في التصرف الجماعي المشترك في ملف اللقاحات ضد فيروس (كورونا) وحزم الإنعاش الاقتصادية الكبيرة ،وبرزالأداء الألماني بقوة في احتواء تداعيات الجائحة في الصدارة الأوروبية .على أي حال خاضت جمهورية ألمانيا الاتحادية تحدي جائحة كورونا عبر حزمة سياسات متينة ومحكمة عبر إنقاذ مالي سخي مصحوبة بتدابير صحية فعّالة وسريعة .أكّدت الاستجابة الألمانية استقرار الأداء الاقتصادي القوي في عهد المستشارة أنجيلا ميركل المديد، على الرغم من شبح الأزمات والمتاعب الجمة التي عرفتها العديد من البلدان الأخرى، بعضها يقع في منطقة اليورو.
  تغادر المستشارة أنجيلا ميركل المشهد السياسي الألماني والعالمي دون أن تتضح ملامح القيادة الألمانية الجديدة، فالنتائج المتقاربة بين يسار الوسط ويمين الوسط تعيد إلى الأذهان نتائج انتخابات عام 2005 م التي سمحت بتولِّي السيدة أنجيلا ميركل المستشارية للمرة الأولى بعد مفاوضات ائتلاف حكومي شاقة وصعبة. وسيتعيّن على الشخص القيادي الجديد أن يشغل فراغاً واسعاً خلّفته ميركل ورائها،وأن يواجه استحقاقات المرحلة المقبلة في المستويات الألمانية والأوروبية والدولية .لقد برزت المستشارة ميركل في هيئة سيدة القرار والإرادة الأوروبية، وكانت لها الكلمة في أروقة الوحدة، حتى تقلّدت السيدة (أورسولا فون دير لاين) ،الوزيرة الألمانية السابقة المقرّبة منها، رئاسة المفوضية الأوروبية. التي تنتمي لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU).لكنّ قيادة السيدة أنجيلا ميركل، المستمدّة أساساً من موقع ألمانيا القوي والمتصدر في بنية الاتحاد وهيكليته ،ومن واقع حصص الإنفاق المالي المقرّرة فيه ،لم يكن بوسعها ضبط الإيقاع الأوروبي في بعض المحطات أو جمع كلمة الدول الأعضاء في ملفّات صعبة ومعقدة ،مثل توزيع اللاجئين على الدول الأوروبية .وقفت ألمانيا عاجزة إزاء مظاهر الافتراق،من قبيل التنافس الفرنسي – الإيطالي على حقول النفط والغاز في ليبيا خلال العشر سنوات الماضية، الذي انتهى إلى تحجيم الدور الأوروبي عموماً في الجغرافية الليبية المفتوحة على التدخلات الخارجية.
بعد أن احتفظت العاصمة الألمانية برلين بنهجها المعهود في إدارة علاقات دولية أكثر توازناً وقوةً خلال جولات التأزيم الغربي مع جمهورية روسيا الاتحادية، وجمهورية إيران الإسلامية، وتركيا. فعلى سبيل المثال تواجه القيادة الألمانية المرتقبة اختبار السير على حبال مشدودة مع تزايد القلق والتوتر بين أقطاب النفوذ الدولي، فكيف يسعها الحفاظ على حيوية وقوة علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية دون التفريط بمصالحها الخاصة ،وحساباتها المعقدة مع الصين وروسيا ؟
عرفت المستشارة أنجيلا ميركل في البدء بتطلّعها إلى تعزيز الشراكة الأطلسية، وهي قضية غاية في الأهمية ،وبلغت بها الحماسة إلى أن غردت خارج السرب بإعلان تأييدها غزو العراق عام 2003 م التي جرت خارج إطار الشرعية الدولية ،عندما كانت في المعارضة، بخلاف الموقف الرسمي للعاصمة الألمانية برلين. فقد أظهرت السنوات اللاحقة كم كانت توقعات المستشارة أنجيلا ميركل من التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية حالمة، ففي ظلّ تودّد الأمريكيين الظاهر نحو شخص المستشارة أنجيلا بالذات، لم يتردّدوا في التجسّس عليها من خلال اختراق هاتفها الشخصي، حسب فضيحة تكشّفت ذيولها في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. وما أن دخل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب البيت الأبيض حتى باشر بتوبيخ وتعنيف الأوروبيين عموماً والألمان خصوصاً، وفرض عقوبات تجارية عليهم من خلال زيادة الضرائب الجمركية ،وتنصل من استحقاقات العولمة الاقتصادية واتفاق باريس للمناخ ( كوب 21) ،وحتى من الاتفاق النووي مع إيران الذي كانت جمهورية ألمانيا الاتحادية أحد رعاته.مع مجموعة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس أمن الأمم المتحدة P5+1)) وهي الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، روسيا، الصين بالإضافة إلى ألمانيا، والتي تتولى المفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي. كما حرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب البريطانيين بشكلٍ سافر على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأظهر حرصاً واضحاً على إضعاف النفوذ الألماني بأي شكل .
فالاتحاد الأوروبي خسر قسطاً من وزنه الاستراتيجي بانسحاب بريطانيا منه، وصارت العاصمة البريطانية لندن أقرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية منها إلى عواصم القرار الأوروبي، حسب ما برهن عليه التحالف الثلاثي الأمريكي - البريطاني – الأسترالي مؤخراً.
هذا التحالف يصعد للتعامل مع التحدي الصيني أساساً بصفةٍ مستقلّة عن دول الاتحاد الأوروبي .وهذا أدى إلى أن تستشعر أوروبا القارية اضمحلال دورها في عالم متعدد الأقطاب. فالحدث أطلق هواجس مقلقة لدى فرنسا التي تخشى إخراجها من لعبة النفوذ الدولي، هذا الأمر يتعدّى إهانات أو خسائر مالية تسبّبت بها أزمة الغواصات الخمس مع أستراليا، ويمتدّ الأمر إلى مستقبل العلاقات مع دول حلف شمال الأطلسي التي تبدو ضمن الأسئلة الكبرى التي تواجهها دول الاتحاد الأوروبي بعد عهد السيدة أنجيلا ميركل.
calendar_month07/10/2021 02:24 pm