
ما زالت العديد من المجتمعات الحديثة تعيش حالةً من القبائلية الغارقة في أعماق الماضي وعقليته. ففي الحقيقة كان أغلب الظن ،أنَّ تلك العقلية ،وذلك النموذج المجتمعي القبلي ،قد انقرض وانفرط عقده منذ زمنٍ بعيد. مع تطور سياسات التكامل والإندماج .ففي الظروف العادية التي نعيش، بمعنى حين تهمد الصراعات الأيديولوجية والسياسية، وتنحسر الفورات والهبّات الدينية ،وتهدأ طموحات القادة والزعماء المحليين، وتتناثر هنا وهناك بغير نظام أو قانون عصابات اللصوص وقطّاع الطرق، وحين يتراجع الاقتصاد وتنحسرالتجارة أو تتمدد ،أو تكثر فترات الكساد الاقتصادي، في هذه الظروف مجتمعة أو متفرقة والتي تتسم بالصعوبة، كانت القبيلة في عصر القبائل والعشائر تتفادى تشكيل تحالفات من قبائل عديدة وقوية ،أو عشائر قوية الشوكة، وإنما تلجأ إلى صنع تحالفات مرنة وبسيطة مع قبيلة أخرى، أو عدد محدود جداً من القبائل والعشائر المتاخمة لها ،أو الواقعة على طرق قوافل تجارتها وتنقلاتها، لمساعدتها على مواجهة أي مشكلة عارضة ،كغزوة جراد أو نوبة جفاف وقحط مثلاً .أو مشاغبات تمرّد من داخل القبيلة أو من خارجها، أو من الإثنين معاً.
في هذا السياق ووفقاً لذلك المنظور. تابعنا ما قام به الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من إجراءات سياسية واستصداره لجملة قوانين وتشريعات ولوائح يومية. وقيامه بمناورات سياسية تجلب قاعدته الشعبية نحوه، وتجذبهم إليه ولمنهجه القبائلي. فقد قدّم ترامب نفسه نموذجاً حياً لمجتمع القبيلة، حيث كشف ذروة انتقال الولايات المتحدة الأمريكية العظمى والتي تعتبر القطب الأوحد في العالم .كشف بكل وضوح المرحلة التي تمر بها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تحالفاتها وطريقة التخلي عن معظم تلك التحالفات. وبناء تحالفات مع دول أقل شأناً من تحالفاته الاستراتيجية. وهذا له تأير كبير جداً على الولايات المتحدة وما حولها .
لقد أكَّد عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين وعلى رأسهم الفيلسوفان اليونانيان أرسطو وأفلاطون أنَّ الإنسان بطبعه اجتماعي، وبحاجة دائماً للعيش مع غيره من البشر، وركّزت نظريّة أرسطو في المجتمع على الفرد أكثر من الجماعة، أمّا أفلاطون فيَرى أنّ المجتمع أو الدّولة هما الأساس وهما من يتحكّم بالفرد، ويُؤكّد على أهميّة المسؤوليّة الاجتماعيّة الكبرى في النطاق الاجتماعي، وركّزت نظريته أيضاً على الجماعة أكثر من الفرد.
أما الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل فقد كان أوّل من عرّف مفهوم تطور عقل الإنسان الاجتماعي وارتباطه بالمجتمع، وهذا أدّى إلى تطوّر مفهوم العقل الجماعي فيما بعد.كما كتب كلّ من الفيلسوفين موريتز لازاروس وستينثال عن مفهوم العقل الجماعي، والذي ركز بقوةٍ على فكرة تطوّر الشخصيّة بناءً على تأثرها بالثّقافة والمجتمع المُحيط.
في إحدى زوايا هذا التاريخ المتشابك ،عثر العديد من العلماء والمفكرين والخبراء في العلاقات الدولية على حالة مميزة من انتقال ألمانيا بين الحربين العالميتين. وانتقالها من جديد تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية. وفي زاوية أخرى من زوايا التاريخ السياسي،نجد أنَّ هناك انتقالات متعدِّدة. أحد تلك الزوايا بدأ الانتقال فيها منذ بدأت الحرب التي شنها (أوتو إدوارد ليوبولد فون بسمارك Otto von Bismarck) على فرنسا. الجدير بالذكر أنَّ بسمارك هو رجل دولة وسياسي بروسي ـ شغل منصب رئيس وزراء مملكة بروسيا وأشرف على توحيد الولايات الألمانية ،وأسس الإمبراطورية الألمانية ،أو ما يسمى بـ "الرايخ الألماني الثاني"، وأصبح أول مستشار لها بعد قيامها في عام 1871 م .
لقد تم اعتبار عام 1871م عاماً هاماً حيث استخدم بسمارك استراتيجة (توازن القوى) بكل قدرةٍ ومهارة للحفاظ على ما حققته القيصرية الألمانية من مكاسب كبيرة في أوروبا،بالإضافة إلى الجهود الحثيثة من أجل إحلال السلام للحيلولة دون إثارة حرب عنيفة تتمكن فرنسا فيها بعد إيجاد حلفاء لها من استعادة مقاطعتي الألزاس واللورين الإمبراطورية وهما إقليم أوجدته الإمبراطورية الألمانية في عام 1871 م. بعد أن ضمت غالبية منطقة الألزاس ومنطقة موزيل في اللورين بعد انتصارها في الحرب الفرنسية البروسية. حيث يقع الجزء الألزاسي في وادي الراين على الضفة الغربية لنهر الراين. وكان قطاع اللورين يقع في وادي موزيل العلوي إلى الشمال من جبال الفوج.وكان بسمارك قد سعى إلى عزل فرنسا عن بقية الدول الأوروبية ، وبالذات عن النمسا وروسيا كي لا يضطر لاحقاً إلى خوض حرب على جبهتين اثنتين مع فرنسا من جهة و روسيا من جهةٍ أخرى. فقد كان بسمارك يأمل في الوقت نفسه في أن تحقق ألمانيا تطوراً ونمواً كبيرين في فترة السلام هذه، لذا فقد عمل على توقيع عدة معاهدات سلام معقَّدة ومتداخلة مع روسيا وإمبراطورية النمسا والمجر عام 1873م.
. لقد مارست فرنسا الانتقال في ذلك الزمن هبوطاً ثم صعوداً فهبوطاً حاداً ،وأخيراً صعوداً تشدّه الآن إلى معاودة الهبوط مرّة أخرى عناصر عديدة. أما بريطانيا العظمى فقد قدَّمت نموذجاً مختلفاً عن النماذج السابقة . فقد خرجت بريطانيا من حرب السويس (الاعتداء الثلاثي على مصر) عام 1956 م دولة كبرى وليست دولة عظمى، وبعد أن ارتبطت بالقوة العسكرية الأمريكية الصاعدة مطمئنة إلى أنَّ هذا الارتباط سوف يضمن استمرار الهيمنة الأنجلوسكسونية على مختلف تفاعلات القوى الدولية في العالم .
لم تبذل الولايات المتحدة الأمريكية جهداً مناسباً لإرضاء البريطانيين آنذاك ،الذين تصوروا ذات يومٍ أنَّ الأمريكيين سوف يحتاجون إلى نصائح القادة البريطانيين في كل خطوة يخطوها حلف شمال الأطلسي (الناتو). صحيح أنّ التشاور لم ينقطع من حيث الشكل. إلا أنه لم يمنع الإنجليز من المشاركة في التخطيط لحرب السويس من دون علم الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يمنع الأمريكيين من التدخل بحزم لإجبار بريطانيا وفرنسا حليفتيها في حلف الأطلسي على الخروج من مصر.
الجدير بالذكر أنَّ العدوان الثلاثي أو حرب 1956م كما تعرف في جمهورية مصر العربية والدول العربية أو أزمة السويس أو حرب السويس كما تعرف في الدول الغربية أو حرب سيناء أو حملة سيناء أو العملية قادش كما تعرف في الكيان الصهيوني .وهي حرب شنتها كل من فرنسا وبريطانيا والكيان الصهيوني على جمهورية مصر العربية عام 1956 م. وهي ثاني الحروب العربية مع الكيان الصهيوني بعد حرب عام 1948م الذي أحدثت النكبة للشعب العربي الفلسطيني.وتعد هذه الحرب واحدة من أهم الأحداث العالمية التي ساهمت في تحديد مستقبل التوازن الدولي بعد الحرب العالمية الانية، وكانت حاسمة في أفول نجم القوى الاستعمارية التقليدية الكبرى، وتألق نجوم جديدة على الساحة الدولية. فقد بدأت جذور أزمة السويس في الظهور عقب توقيع اتفاقية الجلاء في مصر عام 1954 م ،بعد مفاوضات مصرية بريطانية شاقة ومراثونية رافقتها مقاومة شعبية شرسة ضد القوات الإنجليزية بالقناة. الجدير بالذكر أنَّ علاقة الرئيس المصري جمال عبد الناصر مع الدول الغربية في تلك الفترة بدت في صورة جيدة خاصة مع موافقة البنك الدولي وبدعم أمريكي بريطاني على منح جمهورية مصر العربية قرضاً مالياً ضخماً لتمويل مشروع السد العالي . ومعامل الصلب والحديد الذي كان يطمح به عبد الناصر أن يحقق طفرة زراعية وصناعية في البلاد. في تلك الفترة كانت المناوشات الحدودية مستمرة بشكل متقطع بين الدول العربية والكيان الصهيوني منذ عام 1948 م .
لم تتمرد بريطانيا على هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على حلف شمال الأطلسي (الناتو). بل تمردت فرنسا الديغولية، زمن الرئيس الفرنسي شارل ديغول وهو أول رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة .وكان تمرداً مفهوم الدوافع والأهداف. لم يغير هذا التمرد من واقع الأمر شيئاً. ولم تتمرد ألمانيا أبداً. فهي المستفيدة الأكبر بلا منازع .ولكنها بقيت في نظر الأعضاء الآخرين المبرر لكي لا يدفعوا أنصبتهم وحصصهم في موازنة الحلف. ألمانيا لم تدفع بانتظام يذكر ،وعلى كل حال لم يفسر في الولايات المتحدة الأمريكية على أنه نوع من العصيان على قيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو). والتبرم من أدائه. لم تكن النخبة الحاكمة الأمريكية قاصرة عن فهم هذه الحقيقة الماثلة أمامهم. بل كانت تفهم أيضاً أنّ أحداث القرون القليلة الماضية أثبتت بما لا يقبل الشك أنّ أمن الولايات المتحدة الأمريكية القارية في زمن أدوات الحرب التقليدية، يبدأ داخل أوروبا ،وعلى حدودها الغربية عند شواطئ المحيط الأطلسي.لقد تغيرت الأدوات وزال التهديد السوفييتي السابق ومعه حلف وارسو. وحلَّ محله تهديد أقل خطورة من جانب الوريث الروسي، وتهديد آخر بدا للمفكرين والعقول الاستراتيجية الأمريكية أشدّ خطورةَ من (التهديد الروسي) وتهديدات الإرهاب الدولي ألا وهو (التهديد الصيني). الغريب والمثير في الأمر هو تزامن هذا التغيير في مصادر التهديد وتنوعها مع الاتجاه نحو التقليل الواضح من أهمية حلف شمال الأطلسي (الناتو) ،ثم الاهتمام المتزايد بتشكيل تحالفات عدة من دول قليلة العدد. وفي اعتقادي أنَّ وراء هذا الاتجاه في الاستراتيجية الأمريكية والعقلية الأمريكية التي باتت سائدة ، أسباب أو دوافع منها ما يلي:
أولاً: توسعت عضوية وميادين عمل حلف شمال الأطلسي(الناتو) في العقود الأخيرة بشكلٍ لا يتناسب وحاجاته وأهدافه الأصلية التي نشأ من أجلها ويبدو هذا التوسع قد تسبَّب في تعقيد مهمة القيادة الأمريكية للحلف ،بخاصة في وقت بدا فيه المجتمع الأمريكي عاجزاً عن الوفاء بتعهداته ،ليس فقط لحلفائه ولكن أيضاً لمواطنيه الأمريكيين.
ثانياً: لم تعد أيضاً صورة العدو الهائل الضخم الذي يهدد أمن الاتحاد الأوروبي بشكلٍ خاص. وأمن أوروبا بشكلٍ عام. وإن لم يغب خوف بعض دويلات شرق أوروبا وبولندا مما يمكن أن تفعله جمهورية روسيا الاتحادية البوتينية ضد سلامتها وأمنها واستقرارها.
ثالثاً: وهو الأهم فقد وصل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض محملاً بكرهٍ شديد لجمهورية الصين الشعبية، بدا وقتها غير مبرر أبداً. إلا إذا كان الرئيس ترامب جاء إلى الحكم مدفوعاً بقوى داخلية عسكرية أو يمينية متطرفة ،أو من قوى الكارتيلات ومجمعات الصناعات الحربية الأمريكية الضخمة . في الوقت نفسه تعامل الرئيس دونالد ترامب مع أقرانه في قمة دول الحلف بتعالٍ شديد وسخرية فاقعة ، مستغلاً واقع أنّ الدول لا تسدد الأنصبة المالية المتفق عليها دولياً.
رابعاً: أغلبية دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) لم ترحّب بميل القيادة السياسية والعسكرية الأمريكية لاستخدام قوات الحلف في أقاليم ونزاعات وحروب خارج الإطار الجغرافي التقليدي المتعارف عليه. والذي ساروا عليه طيلة عشرات السنين. على كل لم يقدم حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أغلب تدخلاته نموذجاً واحداً يمكن أن يشار إليه بالبنان .
خامساً: لم تتوقف الخلافات والنزاعات الحادة، وعلامات التوتر المستمرة والمتلاحقة عن تشويه سمعة العلاقات بين أعضاء الحلف.ومركزه ومقر قيادته بروكسل.
سادساً: راحت الولايات المتحدة الأمريكية بوازع منها أو من المملكة المتحدة تحث أستراليا على الانضمام لحلف يجمع ثلاثتهم ،ويضمن في الآن ذاته لأستراليا تزويدها بغواصات أمريكية نووية الطاقة، بعد أن غدرت الولايات المتحدة الأمريكية بحليفتها فرنسا التي كانت قد وقّعت عقداً مع استراليا لبناء خمس غواصات تقليدية لها. وساهمت في فسخ العقد . مما اعتبرته القيادة الفرنسية طعناً في الظهر من قبل الولايات المتحدة الأمريكية .
هذا العرض، أي عرض تحالف (أوكوس) الذي لم تعرضه الولايات المتحدة الأمريكية على دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) حتى في أصعب مراحل الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي السابق. أقامت هذا التحالف الثلاثي بسرعة ٍ فائقةٍ لافتةٍ للنظر أمام العالم ،في الوقت نفسه كانت تتفاوض لإقامة تحالف رباعي مع الهند واليابان بالإضافة إلى أستراليا.
أخيراً نجد أنفسنا أمام مشهداً سياسياً أمريكيا يميل نحو التعامل الثنائي، أو مع تحالفات مؤقتة من عدد بسيط من دول متناثرة في العالم .ومتقاربة التفكير والميول في حالات الحاجة وفي قضايا محدّدة فقط . ولا شك عند كثيرين من المفكرين والخبراء الاستراتيجيين يرون في أنّ مؤتمر قمة المناخ عزز الشعور بالضعف في قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على قيادة المجتمع الدولي، هؤلاء يعودون بالضعف إلى سنوات القطبية الأحادية التي أعقبت انفراط الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يشكل القطب الثاني، ففي عام 1992 م وقّعت الولايات المتحدة الأمريكية على معاهدة التغير المناخي ،ولم تقم بواجبها واستحقاقاتها في تحسين حال المناخ في الولايالت المتحدة الأمريكية وفشلها في قيادة العالم نحو تحقيق هذا الهدف، الأمر الذي ضاعف من تعقيد الأزمة وصعوبة إيجاد مخرج لها. لكن يحسب للرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن على كل حال اعتذاره العلني بالنيابة عن الولايات المتحدة وأمام أكثر من 190 دولة في جلاسكو أكبر مدن اسكتلندا والأكبر مدن المملكة المتحدة عن سوء أداء الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية.