
من المتوقع أن يتصاعد التنافس المتسارع بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية لسنوات عديدة قادمة، نظراً لأنه من غير المحتمل أن ينسحب أي منهما منمسؤوليتهما في مجال الشؤون العالمية في المستقبل المنظور. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية تعتبران الدول الأخرى خارج منافساتهما استراتيجياً ،ولكنهما تتنافسان على قيادة العالم بقوة بما يرتبه ذلك من ارتيابهما بشدة في نوايا وتصرفات بعضهما البعض .لقد ظهرت العديد من التقارير والدراسات تتناول تحديد وتوصيف الحالة الاستراتيجية الكبرى لجمهورية الصين الشعبية حتى عام 2050 م ؟. وتحليل الاستراتيجيات الوطنية المكونة لها (الاقتصادية والدبلوماسية، والتكنولوجية، والعلمية، والعسكرية)، وتقييم مدى نجاح جمهورية الصين الشعبية في تنفيذ ذلك على مدى العقود الثلاثة القادمة.
ومن أجل وصول الصين لأهدافها القومية الاستراتيجية وضعت أربع استراتيجيات كبرى متتالية بدأت منذ عام 1949: وهي استراتيجية الثورة الصينية (1949-1977) م، واستراتيجية التعافي (1978-1989) م ، واستراتيجية بناء القوة الوطنية الصينية الشاملة (1990-2003) م، واستراتيجية التجديد الوطني (2004 م– حتى الآن). وعلى الرغم من وجود بعض الاختلافات بين هذه الاستراتيجيات الأربعة، فإنه يلاحظ وجود الكثير من الأهداف الاستراتيجية الدائمة المستمرة عبر عشرات السنين.ومن بين هذه الثوابت الأساسية في الاستراتيجية الصينية هو استعادة الأمن والأمان والسلامة الإقليمية والحفاظ عليها و منع سيطرة قوى عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو أمنية أخرى على منطقة آسيا وبحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ. ومنذ عام 1978م، تمت إضافة هدفان استراتيجيان إضافيان وهما خلق بيئة دولية مواتية للتنمية الاقتصادية ومساندة لها وأن يكون لجمهورية الصين الشعبية صوت ودور أساسي في تشكيل النظام العالمي الجديد المتغير. كل استراتيجية من هذه الاستراتيجيات الأربع الكبرى ركّزت على جعل الصين أقوى بكثير مما كانت عليه. ومع ذلك، فقد كان للقيادة الصينيين المتعاقبين على حكم جمهورية الصين الشعبية أولويات متباينة، كما ركزوا على أساليب وموارد مختلفة ومتنوعة.وتتكون المصالح الأساسية والدائمة لجمهورية الصين الشعبية في عدة مصالح أساسية، وهي:قضايا الأمن التي تهدف إلى الحفاظ على أمن النظام السياسي الصيني ،والحفاظ على الأمن القومي للصين . والحفاظ على السيادة العامة للصين. وحماية السيادة الوطنية وسلامة وأمن الأراضي والوحدة الإقليمية للأراضي الصينية كلها .والحفاظ على كل المستويات والظروف الدولية لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة في الصين .
ومن أجل تحقيق الاستراتيجيات الكبرى في الصين تحتاج القيادة الصينية للعديد من المتطلبات الأساسية لنجاح تنفيذ استرتيجياتها الكبرى والمتملة في عملية (التجديد الوطني) في الإدارة الذكية للنظام السياسي بشكلٍ كامل، والحفاظ على الاستقرار الاجتماعي ، هذه الأهداف الرئيسية تتمثل في الارتقاء بالصين لتصبح دولة تتمتع بحكمٍ جيد وقوي، واستقرار اجتماعي، ونمو وازدهار اقتصادي. وتقدم تقني عالي المستوى. ووجود قوة عسكرية تستطيع الدفاع عن الأراضي الصينية وشعبها ومكوناتها وسيادتها وذلك بحلول عام 2050 م.
يواجه الاقتصاد الصيني العديد من التحديات، والاختلالات بنمو الصين واقتصادها ، فقد لاحظنا أنَّ الاقتصاد الصيني ينمو بوتيرةٍ عالية جداً خلال الأربعين عاماً الماضية، وهو في هذا النمو المتسارع يسير في طريقه لتجاوز حجم الاقتصاد الأمريكي في العقود القليلة القادمة .فقد حقَّقت الصين في مدة زمنية وجيزة نمواً سريعاً لافتاً ، لكن الناتج المحلي الاجمالي في العقود اللأربعة الماضية بدأ يتباطأ ، فقد بلغ متوسط نمو الاقتصاد نحو 10% سنوياً بين عامي 1980 و 2009 م، بدأ الاقتصاد الصيني في التباطؤ، حيث بلغ متوسط نموه حوالي 8% منذ عام 2010م. ومع ذلك، فإنّ هذا النمو السريع كانت تكلفته مرتفعة جداً، إذ يتسم الاقتصاد الصيني بالصعوبات الكبيرة والاختلالات التي يمكن أن نوضحها كالتالي: تمتلك جمهورية الصين الشعبية في الوقت الحالي ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بلغ أحد عشر تريليون ومئتي مليون دولار (بالقيمة الأسمية) في عام 2016م.هذا النمو ترافق مع بقاء الشعب الصيني أفقر بكثير من العديد من جيرانهم الشعوب الآسيويين ،فقد بلغ متوسط ما يحصل عليه الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ثمانية آلاف وثلامائة وعشرون دولاراً في عام 2016م، في حين بلغ متوسط كوريا الجنوبيةنحو سبع وعشرون آلف وخمسمائة وثلاثون دولاراً، وبلغ متوسط الولايات المتحدة سبع وخمسون آلف وأربعمائة وسبع وستون دولاراً.كما يعاني الاقتصاد الصيني من ارتفاع الاستثمار وانخفاض نسبة الاستهلاك. فقد كانت الصين تعتمد بشكل مفرط على الاستثمارات الداخلية والخارجية لدفع النمو الاقتصادي. ولهذا السبب، أصبحت الاستثمارات الإضافية أقل فاعلية وقدرةً كمصدر للنمو الاقتصادي. وعلى العكس من ذلك، بقي الاستهلاك منخفضاً جداً في الصين، حتى بالمقارنة مع اقتصادات دول شرق آسيا الأخرى. ومن أهم عوامل إعادة التوازن للاقتصاد الصيني بعيداً عن الاستثمار، زيادة نصيب استهلاك العائلات من الناتج المحلي الإجمالي، ومع ذلك، تُظهر الاتجاهات والخطط الاقتصادية منذ عام 2007 م انخفاض حصة الاستهلاك بشكلٍ ملحوظ ، مما يشير إلى استمرار اعتماد النمو الاقتصادي في الصين على الإنفاق الحكومي والاستثمارات الأجنبية والصادرات بكل أنواعها لتحفيز النمو وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد خلال أوقات الأزمات والجائحات.كما يبدو أنَّ هناك خللاً واضحاً في الاقتصد الصيني من خلال الاعتماد الكبير على الصادرات فقد اعتمد نموذج التنمية الصيني اعتماداً كبيراً على الصادرات إلى معظم دزل العالم، والتي شكّلت حوالي 22% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2015م، بينما كانت الصادرات اليابانية 7%، وذلك على الرغم من أن الاقتصاد الصيني أكبر من ضعف الاقتصاد الياباني. وذلك خلال أسرع معدلات النمو الاقتصادي في اليابان بين عامي 1960 م و 1985م، حيث شكّلت الصادرات حوالي11،5% من إجمالي الناتج المحلي في المتوسط. ومع ذلك، فقد شكلت الصادرات الصينية نحو 23،4% من إجمالي الناتج المحلي الصيني في المتوسط خلال أسرع فترة نمو في جمهورية الصين الشعبية بين عامي 1990 و2010.لم تتوقف العقبات والصعوبات التي يعاني منها الاقتصد الصيني عند هذا الحد، فقد تراجع حجم القوى العاملة وازدياد نسبة شيخوخة السكان وأصبحت جمهورية الصين الشعبية تواجه تراجعاً سريعاً في القوى العاملة، بسبب اتباعها لسياسة الطفل الواحد في الأسرة على مدار ثلاثة عقود. وفي عام 2000م، كان نحو10% من سكان الصين يبلغون من العمر 60 عاماً، أو أكثر. بينما في عام 2015م، كان أكثر من 15% من المواطنين الصينيين أعمارهم أكبر من خمس وأربعون عاماً وأكبر من ستين عاماً .وهذا سوف يتفاقم هذا الاتجاه في العقود الخمسة القادمة.المشكلة الكبيرة التي تعاني منها الصين على الصعيد العالمي هو الإنتاجال مرتفع جداً مع استفادة محدودة من الملكية الفكرية. فقد أثبتت جمهورية الصين الشعبية نفسها بالفعل كدولة رائدة في تطوير الملكية الفكرية وحصانتها، ولكنها تواجه صعوبات في تحويل ذلك إلى مخرجات اقتصادية هامة للعالم. ففي عام 2016م، أنتجت جمهورية الصين الشعبية أكثر من ضعف براءات الاختراع التي أنتجتها الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، فإن تطبيق هذه التقنيات الهائلة والرفيعة المستوى والاستفادة بها اقتصادياً كانت محدودة بسبب انخفاض جودة براءات الاختراع نفسها. كما لا تزال جمهورية الصين الشعبية تعتمد أيضاً على التقنيات معظم الأجنبية، وتحديداً (الهايتك) إذ تدفع الشركات الصينية بشكل متزايد للشركات الأجنبية رسوم ترخيص الملكية الفكرية لمنتجاتها التقنية ، بينما تحقق الشركات الأمريكية فائضاً هائلاً من بيع هذه البراءات.كل ذلك كان يؤكد أنَّ الاقتصاد الصيني يخضع للدولة.ف الوجود الكبير للدولة في الاقتصاد الصيني استمر دون توقف، مما أدّى إلى توقف الإصلاح الحقيقي. ويُلاحظ وجود الدولة الصينية على جميع مستويات الاقتصاد وتنوعه، فأكبر الشركات في جمهورية الصين الشعبية هي الشركات والبنوك المملوكة للدولة، وتسهم الشركات المملوكة للدولة بحصةٍ كبيرة جداً من الناتج المحلي الإجمالي الصيني، كما أن وجود مسؤولين كبار من الحزب الشيوعي الصيني في الشركات الخاصة أمراً شائعاً جداً، حيث تقتصر قدرة الشركات الأجنبية القادمة من الخارج على الاستثمار في السوق الصيني الداخلي في قطاعات معينة، في حين يتم دعم المصدّرين من خلال سياسات الحكومات المحلية ونهج الحكومة المركزية.
الجدير بالذكر أنَّ الرئيس الصيني شي جين بينغ الرئيس السابع لجمهورية الصين الشعبية ورئيس اللجنة العسكرية المركزية في جمهورية الصين الشعبية والأمين العام للجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني وعضو اللجنة الدائمة لمكتبها السياسي، ويرأس اللجنة العسكرية المركزية للحزب.اختار طريقاً جديداً يحمل درجة عالية من التحدّيات التي تواجه جمهورية الصين الشعبية بعد انقضاء الصبر الاستراتيجي، خصوصاً وهو يقود مجموعة واسعة من المبادرات السياسية هدفها إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد بشروط مؤاتية للصين .ومثل هذه الشروط وهذه المواقف تُبنى وفقاً لحسابات دقيقة سواء كانت تطلعات أو مخاوف، ولذلك يراهن القائد الصيني شي جين بينغ اليوم على الزمن، فقد عزّز سلطته حكمه بشكلٍ كبير وزعزع الوضع الراهن الدولي بقوةٍ ملحوظة على الرغم من جميع الصعوبات والعقبات، وهو ينظر إلى موقع الصين خلال العقد الراهن . وربما العقد ونصف العقد القادم للاستفادة من مجموعة كبيرة التحوّلات التكنولوجية المتقدمة جداً والتحولات والجيوسياسية المهمة التي يمكن بواسطتها التغلّب على معظم التحدّيات الداخلية الكبيرة التي تواجهها الصين